آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ

كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش - وهم الخمس - يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً جديداً ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول :

اليوم يبدو بعه أو كله وما بدا منه فلا أحله
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال :﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا ﴾، فقال تعالى رداً عليهم :﴿ قُلْ ﴾ أي يا محمد لمن ادعى ذلك ﴿ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء ﴾ أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك، ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؟ أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط ﴾ أي بالعدل والاستقامة، ﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاءوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك.
واختلف في معنى قوله :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾، فقال مجاهد : يحييكم بعد موتكم، وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء، وقال قتادة : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً ثم ذهبوا ثم يعيدهم، وقال ابن أسلم : كما بدأكم أولاً كذلك يعيدكم آخراً، واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، وأيده بما رواه عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال :« يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين » وعن مجاهد قال : يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً، وقال محمد بن كعب القرظي :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدأوا عليه، وقال السدي :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً، كما قال :

صفحة رقم 841

﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً، قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في « صحيح البخاري » :« فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل يعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة ».
وعن سهل بن سعد قال، قال رسول الله ﷺ :« إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم » وفي الحديث :« يبعث كل عبد على ما مات عليه » قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الآية وبين قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا ﴾ [ التغابن : ٣٠ ]، وما جاء في « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » ووجه الجمع على هذا : أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك، وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً، ﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ]، وفي الحديث :« كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعنقها أو موبقها » وقدر الله تعالى بريته، فإنه هو :﴿ والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ٣ ] و ﴿ الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، وفي « الصحيحين » :« فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة »، ولهذا قال تعالى :﴿ فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة ﴾، ثم علل ذلك فقال :﴿ إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله ﴾ الآية.

صفحة رقم 842
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية