آيات من القرآن الكريم

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ

وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عَلَى جُمْلَةِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْمُكْثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: ٦٧]- وَقَوْلِهِ- فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٨].
وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُجُودُ أَيْ وُجُودُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَبِخَصَائِصِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّفْنَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَتَاعٌ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ لَا يُدْفَنُونَ فِي الْأَرْضِ.
وَالْمَتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ: نَيْلُ الْمَلَذَّاتِ وَالْمَرْغُوبَاتِ غَيْرِ الدَّائِمَةِ، وَيُطْلَقُ الْمَتَاعُ عَلَى مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَالْحِينُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً، وَقَدْ نُكِّرَ هُنَا وَلَمْ يُحَدَّدْ لِاخْتِلَافِ مِقْدَارِهِ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَفْرَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ زَمَنُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا إِدْرَاكَ اللَّذَّاتِ، وَفِيهِ يحصل بَقَاء الذّات غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَا مُتَلَاشِيَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَهَذَا الزَّمَنُ الْمُقَارِنُ لِحَالَةِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجَلِ، أَيِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَبْلُغُ إِلَيْهَا الْحَيُّ بِحَيَاتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ وَانْعَدَمَتِ الْحَيَاةُ انْقَطَعَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ، وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِمَا قَدَّرَهُ لِلنَّوْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ امْتِنَانٌ وَلَا تنكيل بهم.
[٢٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٥]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِعَاطِفٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ فِعْلِ الْقَوْلِ بِوَاوِ عَطْفٍ، مَعَ كَوْنِ الْقَائِلِ وَاحِدًا، وَالْغَرَضِ مُتَّحِدًا، خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي مِثْلِهِ هُوَ الْعَطْفُ، وَقَدْ أَهْمَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ جُمْهُورُ الْحُذَّاقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ رَأَى ذَلِكَ أُسْلُوبًا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكَايَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ حَاوَلَ تَوْجِيهَ تَرْكِ الْعَطْفِ هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ التُّونُسِيُّ فِي «إِمْلَاءَاتِ التَّفْسِيرِ» الْمَرْوِيَّةِ

صفحة رقم 69

عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤٠] : قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] إِذْ جَعَلَ وَجْهَ إِعَادَةِ لَفْظِ قَالَ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ مِنَ الْبَوْنِ، فَالْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِبُطْلَانِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِي ذَاتِهِ، وَالثَّانِي إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْخَفَاجِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى ابْنِ عَرَفَةَ فَلَعَلَّهُ مِنْ تَوَارُدِ الْخَوَاطِرِ وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: إِعَادَةُ الْقَوْلِ إِمَّا لِإِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِمَضْمُونِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ [الْأَعْرَاف: ٢٥] وَإِمَّا لِلْإِيذَانِ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ [الْحجر: ٥٧]- إِثْرَ قَوْلِهِ- قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الْحجر: ٥٦] فَإِنَّ الْخَلِيلَ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ عُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مُرْسَلِينَ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مُرْسَلِينَ عِنْدَ تَبَيُّنِ أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَما خَطْبُكُمْ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاء: ٦٢]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الْإِسْرَاء: ٦١] فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ الثَّانِيَ بَعْدَ الْإِنْظَارِ الْمُتَرَتَّبِ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ الَّذِي لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَ فِي
مَوَاضِعَ أُخْرَى، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَالتَّوْجِيهُ الثَّانِي مَرْدُودٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْإِحَاطَةُ وَلَا الِاتِّصَالُ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أُسْلُوبًا فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْبَلِيغُ، وَأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْعَطْفِ بِثُمَّ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [الْأَعْرَاف: ٣٩]- بَعْدَ قَوْلِهِ- قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ تَوْجِيهُ إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَأْنَفًا: إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، إِيذَانًا بِتَغَيُّرِ الْخِطَابِ بَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ تَخَالُفٌ مَا، فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَوَّلِ آدَمُ وَزَوْجُهُ والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدَمُ وَزَوْجُهُ وَأَبْنَاؤُهُمَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ قَبْلَ حُدُوثِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمَا بِإِشْعَارِهِمَا أَنَّهُمَا أَبَوَا خَلْقٍ كَثِيرٍ:

صفحة رقم 70
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية