
وسر الله في القرآن أوائل السور، ولا يقال كيف يخاطب الله بما لا يفهم إذ له أن يكلفهم بما لا يعقل جزما كرمي الحجارة في الحج وعدد ركعات الصلاة وغيرها، لأن الحكمة المرادة منها لا تعرف يقينا، أما قولهم هي مواقع الشيطان الذي كلم إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام فيها يوم أراد ذبحه فهو أمر ظاهري ليس الا، وهذا من كمال الانقياد لقدرته وقدمنا بعض ما فيها أوائل سورتي ق ون المارتين وفي المقدمة في بحث الفرق بين الوحي الإلهام، وسنلمع في كل منها ما نقف عليه من معانيها في محله كما فعلنا في سورة ص المارة. واعلم أن جميع ما جاء من حروف الهجاء في أوائل السور أحد عشر حرفا مهملا وهي: ال م ص ط س ح ر ك هـ ع وثلاثة معجمة وهي: الياء والقاف والنون، وهي هنا اسم للسورة وفواتح أسماء الله الحسنى أنا الله المعبود الصبور المصور اللطيف المجيد الذي يفصل بين الخلق ويعلم ما هم عليه وما هم صائرون إليه وسر من أسراره الدائرة بينه وبين حبيبه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «المص ١» قال أهل المعرفة ما من سورة ابتدئت بالم إلا وتشتمل على ثلاثة أمور: ١- الخلق وكيفيته وهو البداية، ٢- والمعاد وما فيه وهو النهاية، ٣- والوسط وما يتعلق به وهو المعاش وفيه اشارة إلى مخارج الحروف الثلاثة، الحلق واللسان والشفتين، وزيد في هذه السورة حرف الصاد إعلاما بما فيها من قصص الأنبياء وغيرهم هذا «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ» ضيق وضجر «مِنْهُ» بسبب إبلاغه وتأدية ما أرسلت به منه إلى قومك ولا تنقبض من شكهم فيه وبإنزاله عليك وتكذيبهم لك وجحدهم نبوتك «لِتُنْذِرَ» متعلق بأنزل «به» أي الكتاب قومك وغيرهم من أهل الأرض «وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢» به المصدقين بك وبربك، وإنذار للمكذبين المنكرين فقل يا أيها الناس «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم «وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» كرؤوس الكفرة والشياطين الذين يدعونكم إلى الشرك بالله ويريدونكم على عبادة الأوثان والأهواء الفاسدة المبتدعة «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ٣» بعظة الله صفحة رقم 328
ورسوله وكتابه، وما هنا لتأكيد القلة، أي أن اتعاظكم به قليل جدا ولهذا لم تنتفعوا به، ثم حذرهم من عدم التذكر ومن الإصرار على الشرك وإنكار التوحيد بقوله عز قوله «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» لعدم اتعاظها «فَجاءَها بَأْسُنا» عذابنا الذي لا يرد بحكمنا الذي لا يعقب قبل أن يصبحوا بدلالة قوله «بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ٤» ضحوة النهار لأنه أيضا وقت غفلة لا يتوقع فيه شيء بخلاف الصباح، فإن الغارات تقع فيه غالبا، وقد أهلك الله قوم لوط سحرا وقال:
(فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية ١٧٧ من الصافات في ج ٢، وأهلك قوم شعيب ضحى، ونزول العذاب وقت الغفلة أشد وقعا في النفس من غيره وأفظع هولا، وفي هذه الآية تخويف لقريش وتنبية بعدم اغترارهم بما هم فيه من الحذر، لأن الله إذا أراد إنزال عذابه بهم أنزله عليهم دفعة واحدة حال غفلتهم، كما فعل بغيرهم وهؤلاء المعذبون حينما يقع بهم العذاب «فَما كانَ دَعْواهُمْ» احتجاجهم وتضرعهم ودعاؤهم «إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا» واتصل بهم عذابنا «إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ٥» أنفسنا لعدم امتثالنا أمر رسلنا، وإصرارنا على مخالفتهم، وانكبابنا على الشرك، وبعد اعتراف هؤلاء باستحقاقهم العذاب «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» يوم القيامة بالموقف العظيم على ملأ الأشهاد وليبينوا ما أجابوا به رسلنا حين دعوهم للإيمان بنا وحدنا «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦» أيضا في ذلك المشهد هل بلغوا رسالتنا كما أمرناهم أم لا، وهذا السؤال من الله عز وجل بمثابة الجواب للقائلين (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) الآية ١٨ من المائدة في ج ٣ وفي معناها كثير في القرآن، مع أن الله تعالى لم يترك أمة بلا رسول، راجع الآية ٢٤ من فاطر الآتية، وهو أعلم بما يقولون لأجل الاستشهاد على إنكارهم وتوبيخهم وتقريعهم على رءوس الأشهاد، قال تعالى «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ» ما وقع منهم كله «بِعِلْمٍ» ويقين ليتحققوا أنا كنا حاضرين عملهم «وَما كُنَّا غائِبِينَ ٧» عنهم حينما بلغهم الرسل أو أمرنا راجع تفسير الآية ٣٠ من آل عمران في ج ٣، وفائدة هذا القصص إخزاء المنكرين عند ما يظهر كذبهم بالموقف بشهادة رسلهم عليهم، لا لأجل الاستثبات

من إيقاع أفعالهم لأن الله عالم بها قبل وقوعها منهم وعالم بما في الكون كليّه وجزئيه وعلمه تعالى بظاهر الأمور كعلمه يبواطنها، راجع الآية ٣ من سورة سبأ في ج ٢، قال تعالى «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ» يوم السؤال هو «الْحَقُّ» العدل الكائن لا محالة.
مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة:
واختلف في وصف الميزان وكيفية الوزن، والإيمان بهما على ظاهرهما واجب، وأصح ما قيل فيهما أن الميزان له لسان وكفتان عظيم الحجم، والوزن هو صحائف الأعمال، بدليل ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
ان الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له أتنكر شيئا من هذا؟
أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب، فيقول ألك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول تبارك وتعالى: بل إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له انه لا ظلم عليك اليوم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسمه شيء. أخرجه الترمذي واحمد بن حنبل. إن هذا يثبت ما قلناه في الميزان والحكمة من إظهار العدل للناس وتعريفهم ما لهم وعليهم، وعلامة السعادة والشقاوة، وبيان أنّ الله لا يظلم عباده، وانه امتحنهم بالإيمان في الدنيا وأقام عليهم الحجة في العقبى وليتيقنوا استحقاقهم العذاب وان الله لم يحف عليهم راجع الآية ٢٦ من ص المارة، قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» بحسناته وطاشت سيئاته «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨» الفائزون بثواب الله الناجحون في ذلك اليوم «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» بسيئاته وطاشت حسناته «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» فيه وعوقبوا بحرمانهم من ثواب الله وكرامته «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ٩» أنفسهم في الدنيا بجحدهم آياتنا وتكذيبهم رسلنا،