ومعنى قوله سبحانه: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للانذار والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الانذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، وتقديم النذير لأن المقام مقام إنذار لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بما جئت به، والجار إما متعلق بالوصفين جميعا والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالتبشير واما متعلق بالأخير ومتعلق الأول محذوف أي نذير للكافرين، وحذف ليطهر اللسان منهم.
وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة في احداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ استئناف لبيان ما يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم، وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه الجمهور وَجَعَلَ مِنْها أي من جنسها كما في قوله سبحانه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: ٧٢، الشورى: ١١] فمن ابتدائية والمشهور أنها تبعيضية أي من جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام اليسرى، والكيفية مجهولة لنا ولا يعجز الله تعالى شيء، والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب فيه، وهو إما بمعنى صير فقوله سبحانه: زَوْجَها مفعوله الأول والثاني هو الظرف المقدم واما بمعنى أنشأ والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا أو بمحذوف وقع حالا من المفعول لِيَسْكُنَ إِلَيْها علة غائية للجعل أي ليستأنس بها ويطمئن إليها، والضمير المستكن للنفس، وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر باعتبار أن المراد منها آدم ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى والمقصود خلافه، وذكر الزمخشري أن التذكير أحسن طباقا للمعنى وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرا بالميل وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لا سيما وقد أكد بالفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاها والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته أيضا إليه وإن كان من الجانبين، وفيه إيماء إلى أن تكثير النوع علة المؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة، وأيضا لما جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج لسكونه بعد الاستيحاش لا العكس فإنه غير ملائم لفظا ومعنى، لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه فمذكر وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وجاء ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير وتصغيرها نفسية فليفهم. والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو بمعنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي فلما جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي محمولا خفيفا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه. وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وجوز أن يكون هنا مصدرا منصوبا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم التأذي أي حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما تلقى بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس والضحاك والمراد بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه. والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد، وقرأ أبو العالية وغيره «مرت» بالتخفيف فقيل: إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية أي الشك أي شكت في أمر حملها.
وقرأ ابن عمر والجحدري «فمارت» من مار يمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار ذا تمر ولبن، وقيل: إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كأصبح دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيقي، وقرىء
«أثقلت» بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية أي أثقلها حملها دَعَوَا اللَّهَ أي آدم وحواء عليهما السلام لما خافا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل رَبَّهُما أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء.
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعهود منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به، أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي نسلا من جنسنا سويا، وقيل: ولدا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة. وعن الحسن غلاما ذكرا وهو خلاف الظاهر لَنَكُونَنَّ نحن أو نحن ونسلنا مِنَ الشَّاكِرِينَ الراسخين في الشكر لك على إيتائك. وقيل: على نعائمك التي من جملتها هذه النعمة.
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً وهو ما سألاه أصالة من النسل أو ما طلباه أصالة واستتباعا من الولد وولد الولد ما تناسلوا جَعَلا أي النسل الصالح السوي، وثني الضمير باعتبار أن ذلك النسل صنفان ذكر وأنثى وقد جاء أن حواء كانت تلد في كل بطن كذلك لَهُ أي لله سبحانه وتعالى شُرَكاءَ من الأصنام والأوثان فِيما آتاهُما من الأولاد حيث أضافوا ذلك إليهم، والتعبير «بما» لأن هذه الإضافة عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل.
وقيل: المراد بالموصول ما يعم سائر النعم فإن المشركين ينسبون ذلك إلى آلهتهم، ووجه العدول عن الإضمار حيث لم يقل شركاء فيه على الوجهين ظاهر، وإسناد الجعل للنسل على حد بنو تميم قتلوا فلانا فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه فيه معنى التعجب، والفاء لترتيبه على ما فصل من قدرته سبحانه عز وجل وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد، وضمير الجمع لأولئك النسل الذين جعلوا لله شركاء وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذان بعظم شركهم، والمراد بذلك إما التسمية أو مطلق الإشراك، و «ما» إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما يشركون به تعالى، وهذه الآية عندي من المشكلات، وللعلماء فيها كلام طويل ونزاع عريض وما ذكرناه هو الذي يشير إليه كلام الجبائي وهو مما لا بأس به بعد أعضاء العين عن مخالفته للمرويات سوى تثنية الضمير تارة وجمعه أخرى مع كون المرجع مفردا لفظا ولم نجد ذلك في الفصيح.
واختار غير واحد أن في جعلا وآتاهما بعد مضافا محذوفا وضمير التثنية فيهما لآدم وحواء على طرز ما قبل أي جعل أولادهما فيما آتى أولادهما من الأولاد وإنما قدروه في موضعين ولم يكتفوا بتقديره في الأول وإعادة الضمير من الثاني على المقدر أولا لأن الحذف لم تقم عليه قرينة ظاهرة فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه، والمراد بالشرك فيما آتى الأولاد تسمية كل واحد من أولادهم بنحو عبد العزى وعبد شمس.
واعترض أولا بأن ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما ويتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الأعراف: ١٤١] الآية فإن الإنجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود وقد نسب إلى أخلاقهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الامتنان حقه وكذا يقال في نظائره وهنا ليس كذلك إذ لا ريب في أن آدم وحواء عليهما السلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فلا وجه لإسناده إليهما صورة، وثانيا بأن اشراكهم بإضافة أولادهم بالعبودية إلى أصنامهم من لازم اتخاذ تلك الأصنام آلهة
ومتفرع له لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك، وثالثا بأن اشراك أولادهما لم يكن حين آتاهما الله تعالى صالحا بل بعده بأزمنة متطاولة، ورابعا بأن اجراء جعلا على غير ما أجري عليه الأول والتعقيب بالفاء يوجب اختلال النظم الكريم.
وأجيب عن الأول بأن وجه ذلك الإسناد الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما شكرهم في ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدا مؤكدا باليمين بمنزلة إخلالهما بالذات في استيجاب الحنث والخلف مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم ببيان أنهم بجعلهم المذكور أوقعوهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية مع الله تعالى والجناية عليهما عليهما السلام، وعن الثاني بأن المقام يقتضي التوبيخ على هذا لأنه لما ذكر ما أنعم سبحانه وتعالى به وعليهم من الخلق من نفس واحدة وتناسلهم وبخهم على جهلهم وإضافتهم تلك النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء ولم يذكر أولا أمرا من أمور الألوهية قصدا حتى يوبخوا على اتخاذ الآلهة، وعن الثالث بأن كلمة لما ليست للزمان المتضايق بل الممتد فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم واحد أو شهر أو سنة بل يختلف ذلك باختلاف الأمور كما يقال: لما ظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد، وعن الرابع بما حرره صاحب الكشف في اختيار هذا القول وإيثار على القول بأن الشرك راجع لآدم وحواء عليهما السلام وليس المتعارف بل ما نقل من تسمية الولد عبد الحارث وهو أن الظاهر أن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خطاب لأهل مكة وأنه بعد ما ختمت قصة اليهود بما ختمت تسلية وتشجيعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحملا له على التثبت والصبر اقتداء بإخوته من أولي العزم عليه وعليهم الصلاة والسلام لا سيما مصطفاه وكليمه موسى عليه السلام فإن ما قاساه من بني إسرائيل كان شديد الشبه بما كان يقاسيه صلّى الله عليه وسلّم من قريش وذيلت بما يقتضي العطف على المعنى الذي سيق له الكلام أولا أعني قوله سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف: ١٨١] وقع التخلص إلى ذكر أهل مكة في حاق موقعه فقيل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [الأعراف: ١٨٢] وذكر سؤالهم عما لا يعنيهم فلما أريد بيان أن ذلك مما لا يهمكم وإنما المهم إزالة ما أنتم عليه منغمسون فيه من أوضار الشرك والآثام مهد له هو الذي خلقكم مضمنا معنى الامتنان والمالكية المقتضيين للتوحيد والعبودية ثم قيل: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أي جعلتم يا أولادهما ولقد كان في أبويكم أسوة حسنة في قولها: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ وكأن المعنى والله تعالى أعلم فلما آتاهما صالحا ووفيا بما وعدا به ربهما من القيام بموجب الشكر خالفتم أنتم يا أولادهما فأشركتم وكفرتم النعمة، وفي هذا الالتفات ثم إضافة فعلهم إلى الأبوين على عكس ما جعل من خلق الأب وتصويره في معرض الامتنان متعلقا بهم إيماء إلى غاية كفرانهم وتماديهم في الغي، وعليه ينطبق قوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم قال: فظهر أن إجراء جعلا له على غير ما أجري عليه الأول، والتعقيب بالفاء لا يوجب اختلال النظم بل يوجب التئامه، والانصاف أن الأسئلة والآية على هذا الوجه من قبيل اللغز، وعن الحسن وقتادة أن ضمير جعلا وآتاهما يعود على النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عليهما السلام، وهو قول الأصم قال: ويكون المعنى في قوله سبحانه وتعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وخلق لكل نفس زوجا من جنسها فلما تغشى كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل فلما أثقلت بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا أي ذكرا سويا لنكونن من الشاكرين وكانت عادتهم أن يئدوا البنات فلما آتاهما أي فلما أعطى الله تعالى الأب والأم ما سألاه جعلا له شركاء
فسميا عبد اللات وعبد العزى وغير ذلك ثم رجعت الكناية في قوله سبحانه وتعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ إلى الجميع ولا تعلق للآية بآدم وحواء عليهما السلام أصلا، ولا يخفى أن المتبادر من صدرها آدم وحواء ولا يكاد يفهم غيرهما رأسا. نعم اختار ابن المنير ما مآله هذا في الانتصاف وادعى أنه أقرب وأسلم مما تقدم وهو أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ولا يقصد معين
من ذلك ثم قال: وكأن المعنى والله تعالى أعلم هو الذي خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم فجاز أن يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة قتل بنو تميم فلانا وإنما قتله بعضهم، ومثله قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: ٦٦] وقُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] إلى غير ذلك وتعقب بأن فيه اجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة.
وعن أبي مسلم أن صدر الآية لآدم وحواء كما هو الظاهر إلا أن حديثهما ما تضمنه قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وانقطع الحديث ثم خص المشركين من أولاد آدم بالذكر، ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر، وهو كما ترى. وقيل: يجوز أن يكون ضمير جعلا لآدم وحواء كما هو الظاهر والكلام خارج مخرج الاستفهام الإنكاري والكناية في فَتَعالَى إلخ للمشركين، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويشرك كما نشرك فرد عليهم بذلك ونظير هذا أن ينعم رجل على آخر بوجوه كثيرة من الانعام ثم يقال لذلك المنعم: إن الذي أنعمت عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول: فعلت في حقه كذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم أنه يقابلني بالشر والإساءة ومراده أنه بريء من ذلك ومنفي عنه.
وقيل: يحتمل أن يكون الخطاب في خَلَقَكُمْ لقريش وهم آل قصي فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قريشية وطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار يعني بها دار الندوة ويكون الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأيد ذلك بقوله في قصة أم معبد:
فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم | به من فخار لا يبارى وسودد |
وما مثل من فسر بذلك إلا كمن عمر قصرا فهدم مصرا، وأما البيت فإنما خص فيه بنو قصي بالذكر لأنهم ألصق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لأنه لما كان سيدهم وأميرهم شمل ذكره الكل شمول فرعون لقومه ومعلوم أن الكل ليسوا من نسل فرعون وأجيب عن قوله: من أين العلم إلخ بأنه من إعلام الله تعالى إن كان ذلك هو معنى النظم، ومنه يعلم أن كون زوجته غير قرشية في حيز المنع. نعم في كون قصي هو أحد أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مشركا مخالفة لما ذهب إليه جمع من أن أجداده عليه الصلاة والسلام كلهم غير مشركين، وقيل: إن ضمير له للولد، والمعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح الذي آتاهما، وقيل: هو لإبليس، والمعنى جعلا لابليس شركاء في اسمه حيث سميا ولدهما بعبد الحرث، وكلا القولين ردهما الآمدي في أبكار الأفكار، وهما لعمري أوهن من بيت العنكبوت لكني ذكرتهما استيفاء للأقوال، وذهب جماعة من السلف كابن عباس. ومجاهد. وسعيد بن المسيب وغيرهم إلى أن ضمير جَعَلا يعود صفحة رقم 132
لآدم وحواء عليهما السلام، والمراد بالشرك بالنسبة إليهما غير المتبادل بل ما أشرنا إليه آنفا إلى قوله سبحانه وتعالى:
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تخلص إلى قصة العرب وإشراكهم الأصنام فهو كما قال السدي من الموصول لفظا المفصول معنى، ويوضح ذلك كما قيل تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية ولو كانت القصة واحدة لقيل يشركان، وكذلك الضمائر بعد، وأيد ذلك بما
أخرجه أحمد. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وأراد بالحرث نفسه فإنه كان يسمي به بين الملائكة»
ولا يعد هذا شركا بالحقيقة على ما قال القطب لأن اسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية لكن أطلق عليه الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون عما لا يعنيهم أمر عظيم لا يكاد يحيط بفظاعته عبارة.
وفي لباب التأويل أن إضافة عبد إلى الحارث على معنى أنه كان سببا لسلامته وقد يطلق اسم العبد على ما لا يراد به الملوك كقوله:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ولعل نسبة الجعل إليهما مع أن الحديث ناطق بأن الجاعل حواء لا هي وآدم لكونه عليه السلام أقرها على ذلك، وجاء في بعض الروايات التصريح بأنهما سمياه بذلك. وتعقب هذا القول بعض المدققين بأن الحديث لا يصلح تأييدا له لأنه لم يرد مفسرا للآية ولا إنكارا لصدور ذلك منهما عليهما السلام فإنه ليس بشرك. نعم كان الأولى بهما التنزه عن ذلك إنما المنكر حمل الآية على ذلك مع ما فيه من العدول عن الظاهر لا سيما على قراءة الأكثرين شُرَكاءَ بلفظ الجمع، ومن حمل فَتَعالَى إلخ على أنه ابتداء كلام وهو راجع إلى المشركين من الكفار، والفاء فصيحة، وكونه منقولا عن السلف معارض بأن غيره منقول أيضا عن جمع منهم انتهى. وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر أنّ الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرا للآية، وارتكاب خلاف الظاهر في تفسيرها مما لا مخلص عنه كما لا يخفى على المنصف.
ووجه جمع الشركاء زيادة في التغليظ لأن من جوز الشرك جوز الشركاء فلما جعلا شريكا فكأنهما جعلا شركاء، وحمل فَتَعالَى اللَّهُ إلخ على الابتداء مما يستدعيه السباق والسياق وبه وصرح كثير من أساطين الإسلام والذاهبون إلى غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم دونهم أيضا في العلم والفضل وشتان ما بين دندنة النحل وألحان معبد، ومن هنا قال العلامة الطيبي: إن هذا القول أحسن الأقوال بل لا قول غيره ولا معول إلا عليه لأنه مقتبس من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وأنت قد علمت مني أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وأراه قد صح ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره والله تعالى الموفق للصواب وقرأ نافع وأبو بكر «شركا» بصيغة المصدر أي شركة أو ذوي شركة وهم الشركاء أَيُشْرِكُونَ به تعالى ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً أي ما لا يقدر على أن يخلق شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وعنى «بما» الأصنام، وإرجاع الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها كما أن إرجاع ضمير الجمع إليها من قوله سبحانه وتعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ لرعاية معناها وإيراد ضمير العقلاء مع أن الأصنام مما لا يعقل إنما هو بحسب اعتقادهم فيها واجرائهم لها مجرى العقلاء وتسميتهم لها آلهة.
والجملة عطف على لا يَخْلُقُ، والجمع بين الأمرين لإبانة كمال منافاة حال ما أشركوه لما اعتقدوا فيه
واظهار غاية جهلهم، وعدم التعرض للخالق للإيذان بتعينه والاستغناء عن ذكره تعالى وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي الأصنام لَهُمْ أي للمشركين الذين عبدوهم نَصْراً أي نصرا ما إذا أحزنهم أمرهم وخطب ملم وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم، وإيراد النصر للمشاكلة وهو مجاز في لازم معناه وهذا لتأكيد العجز والاحتياج المنافيين لاستحقاق الألوهية، ووصفوا فيما تقدم بالمخلوقية لكونهم أهلا لها ولم يوصفوا هنا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلا لها. وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تحصل للطالب. والخطاب للمشركين بطريق الالتفات بدلالة ما بعد، وفيه إيذان بمزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، أي وإن تدعوا الأصنام أيها المشركون إلى أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به المطالب أو تنجون به عن المكاره لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم ولا يقدرون على ذلك. وقرأ نافع «يتبعوكم» بالتخفيف وقوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ استئناف مقرر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم الاتباع، أي مستو عليكم في عدم الافادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية، وكان الظاهر الإتيان بالفعل فيما بعد أَمْ لأن ما في حيز همزة التسوية مؤول بالمصدر، لكنه عدل عن ذلك للايذان بأن احداث الدعوة مقابل باستمرار الصمات، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقيل: إن الاسمية بمعنى الفعلية وإنما عدل عنها لأنها رأس فاصلة وفيه أنه لو قيل تصمتون تم المراد.
وقيل: إن ضمير «تدعوا» للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أو له عليه الصلاة والسلام وجمع للتعظيم، وضمير المفعولين للمشركين، والمراد بالهدى دين الحق أي إن تدعوا المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم أي لم يحصلوا ذلك منكم ولم يتصفوا به، وتعقب بأنه مما لا يساعده سباق النظم الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: ٦] فإن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، ولعل رواية ذلك عن الحسن غير ثابتة، والطبرسي حاطب ليل إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ تقرير لما قبله من عدم اتباعهم لهم، والدعاء إما بمعنى العبادة تسمية لها بجزئها، أو بمعنى التسمية كدعوته زيدا ومفعولان محذوفان أي إن الذين تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أو تسمونهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي مماثلة لكم من حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر كما قال الأخفش، وتشبيهها بهم في ذلك مع كون عجزها عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسهم وزعمهم قدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانة بها، وقيل: يحتمل أنهم لما نحتوا الأصنام بصور الأناسي قال سبحانه لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض فتكون المثلية في الحيوانية والعقل على الفرض والتقدير لكونهم بصورة الأحياء العقلاء، وقرأ سعيد بن جبير إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ بتخفيف إن ونصب عبادا أمثالكم، وخرجها ابن جني على أن إن نافية عملت عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وبعض الكوفيين. واعترض أولا بأنه لم يثبت مثل ذلك، وثانيا بأنه يقتضي نفي كونهم عبادا أمثالهم، والقراءة المشهورة تثبته فتتناقض القراءتان، وأجيب عن الأول بأن القائل به يقول: إنه ثابت في كلام العرب كقوله:
إن هو مستوليا على أحد | إلا على أضعف المجانين |
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن | خطاك خفافا إن حراسنا أسدا |
وقرأ أبو جعفر «يبطشون» بضم الطاء وهو لغة فيه، والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أو يدفعون بها عنكم، وتأخير هذا عما قبله كما قال شيخ الإسلام لما أن المشي حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير، وأما تقديم ذلك على قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاء المشي والبطش أظهر والتبكيت به أقوى، وأما تقديم الأعين على الآذان فلأنها أشهر منها وأظهر عينا وأثرا، وكون الإبصار بالعين والسماع بالأذن جار على الظاهر المتعارف. واستدل بالآية من قال: إن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة بها تؤثر إذا أذن الله تعالى لها خلافا لمن قال: إن التأثير عندها لابها. وزعم أن ذلك القول قريب إلى الكفر وليس كما زعم بل هو الحق الحقيق بالقبول قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يناصبهم المحاجة ويكرر عليهم التبكيت بعد أن بين شركاءهم لا يقدرون على شيء أصلا، أي ادعوا شركاءكم واستعينوا بهم علي ثُمَّ كِيدُونِ جميعا أنتم وشركاؤكم وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من المكر والكيد فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني لا أبالي بكم أصلا، وياء المتكلم في الفعلين مما لم يثبتوها خطا، وقرأ أبو عمرو وبإثبات ياء كيدون وصلا وحذفها وقفا، وهشام بإثباتها صفحة رقم 135
في الحالين والباقون بحذفها فيهما. وفي [هود: ٥٥] فَكِيدُونِي جَمِيعاً بإثبات الياء مطلقا عند الجميع، وأما ياء فَلا تُنْظِرُونِ فقد قال الأجهوري: إنهم حذفوها لا غير إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاما جليا، وأل في الكتاب للعهد والمراد منه القرآن، ووصفه سبحانه بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية، وكأنه وضع نزل الكتاب موضع أرسلني رسولا ولا شك أن الإرسال يقتضي الولاية والنصرة، وقيل: إن في ذلك إشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله تعالى الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم، وقوله سبحانه وتعالى:
وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، أي ومن عادته جل شأنه أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم وقال الطيبي: إنما خص اسم الذات بتنزيل الكتاب وجعلت الآية تعليلا للدلالة على تفخيم أمر المنزل وأنه الفارق بين الحق والباطل وأنه المجلي لظلمات الشرك والمفحم لألسن أرباب البيان والمعجز الباقي في كل أوان وهو النور المبين والحبل المتين وبه أصلح الله تعالى شؤون رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث كمل به خلقه وأقام به أوده وأفسد به الأباطيل المعطلة، ومن ثم جيء بقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ إلخ كالتذييل والتقرير لما سبق والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق. والمعنى إن وليي الذي نزل الكتاب المشهور الذي تعرفون حقيقته ومثله يتولى الصالحين ويخذل غيرهم، ولا يخفى أن ما ذكر أولا في أمر الوصفية أنسب بالمقام وأمر التذييل مما لامرية فيه، وهذه الآية مما جربت المداومة عليها للحفظ من الأعداء وكانت ورد الوالد عليه الرحمة في الاسحار وقد أمره بذلك بعض الأكابر في المنام، والجمهور على تشديد الياء الأولى من وَلِيِّيَ وفتح الثانية ويقرأ بحذفها في اللفظ لسكونها وسكون ما بعدها، وبفتح الأولى ولا ياء بعدها وحذف الثانية من اللفظ تخفيفا.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي تعبدونهم أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم على حسبما أمرتكم به لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ في أمر من الأمور ويدخل في ذلك الأمر المذكور دخولا أوليا، وجوز الاقتصار عليه وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا أصيبوا بحادثة وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى أي إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم مطلقا أو في خصوص الكيد المعهود لا يَسْمَعُوا أي دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الإتباع، وحمل السماع على القبول كما في سمع الله لمن حمده كما زعمه بعضهم ليس بشيء، وقوله سبحانه وتعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع، وبهذا على ما قيل تم التعليل لعدم المبالاة فلا تكرار أصلا، وقال الواحدي: إن ما مر للفرق بين من تجوز عبادته وغيره، وهذا جواب ورد لتخويفهم له صلّى الله عليه وسلّم بآلهتهم، والرؤية بصرية، وجملة ينظرون في موضع الحال من المفعول الراجع للأصنام، والجملة الاسمية حال من فاعل ينظرون، والخطاب لكل واحد من المشركين، والمعنى وترى الأصنام رأي العين يشبهون الناظر إليك لك أنهم يبصرون لما أنهم صنع لهم أعين مركبة بالجواهر المتلألئة وصورت بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار، وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المشركين دون الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة للإيذان بأن رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لا يتسنى للكل معا بل لكل من يواجهها.
وذهب غير واحد إلى أن الخطاب في تَراهُمْ لكل واقف عليه، وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمير الغيبة على حاله أو للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى: لا يَسْمَعُوا أي وترى المشركين ناظرين إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه أو لا يبصرون الحجة كما قال السدي، ومجاهد. ونقل عن الحسن أن الخطاب في وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ
للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله سبحانه وتعالى: يَنْصُرُونَ أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم، وعلى هذا يحسن تفسير السماع بالقبول، وجعل وَتَراهُمْ خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد، وفي الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين.
وجوز بعضهم أن تكون الرؤية علمية وما كان في موضع الحال يكون في موضع المفعول الثاني والأول أولى.
خُذِ الْعَفْوَ أي
ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس، وإلى هذا ذهب ابن عمر وابن الزبير وعائشة ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
والأخذ مجاز عن القبول والرضا، أي ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، ومن ذلك قوله:
خذي العفو مني تستديمي مودتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: لما أنزل الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ إلى آخره قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك، ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى. وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء. وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفي من أموال الناس، أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة، وقيل: العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي. فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير، وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي. وقال عطاء:
المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم وأغض بما يسوءك منهم. وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته، ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر، وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
وزبدتها كما قالوا تحري حسن المعاشرة مع الناس وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساويهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة وقد علم كل أناس مشربهم، ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله، وإذا قيل: بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث إن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الارعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الالتئام، هذا
وعن ابن زيد أنه لما نزل قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما بين القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج، هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، صفحة رقم 137
وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل: النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فاستجربه والتجئ إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ يسمع على أكمل وجه استعاذتك قولا عَلِيمٌ يعلم كذلك تضرعك إليه قلبا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره، أو سميع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها. والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»،
وقال آخرون: إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه، ولذا كرر صلّى الله عليه وسلّم النهي عنه كما جاء في الحديث، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا استئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي لمة منه كما روي عن ابن عباس، وتنوينه للتحقير، والمراد وسوسة ما، وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله، وجعل الوسوسة طائفا للايذان بأنها وإن مست لا تؤثر فيهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم.
وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد به الخاطر. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي تَذَكَّرُوا أي ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، أو الاستعاذة به تعالى والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، أو عداوة الشيطان وكيده فَإِذا هُمْ بسبب ذلك التذكر مُبْصِرُونَ مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه وتعالى، الظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا، وقال بعض المحققين: إن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ إلخ إما أن يكون مختصا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو الظاهر فالمناسب أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم، أو يكون عاما على طريقة «بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»، أو خاصا يراد به العام نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] فالمتقون حينئذ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى. ولا يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم هو المتبادر على كل حال، وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام، وجعل الخطاب فيما سبق خاصا بالسيد الأعظم صلّى الله عليه وسلّم وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن، ثم قال: ولذا فصل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه الصلاة والسلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه الصلاة والسلام بالنزغ وفي حقهم بالمس، وقد يقال: إن اهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من اهتمامه في الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولا بالنزغ وثانيا بالمس وَإِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا وذلك معنى الأخوة بينهم، وهو مبتدأ وقوله سبحانه وتعالى: يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ خبره، والضمير المرفوع للشياطين والمنصوب للمبتدأ، أي تعاونهم
الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم ويحملوهم عليه، والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي أنه هل يجب إبراز الضمير أولا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم، وقيل: إن الضمير الأول للإخوان والثاني للشياطين، والمعنى وأخوان الشياطين يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال، وعلى هذا يكون الخبر جاريا على من هو له، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول.
وقرأ نافع «يمدّونهم» بضم الياء وكسر الميم من الامداد والجمهور على فتح الياء وضم الميم.
قال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك: وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى: أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنون: ٥٥] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: ٢٢] وأَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النمل: ٣٦] وما كان بخلافه على مددت قال تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: ١٥] وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر، ووجه قراءة نافع أنه مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: ٢٤] وفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل: ١٠] وقرأ الجحدري «يمادونهم» من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان الشياطين يعينونهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو من أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا وجوز أن يكون الضمير للإخوان وروي ذلك عن ابن عباس والسدي وإليه ذهب الجبائي، أي ثم لا يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، وجوز أيضا أن يراد بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولا والمفعول ثانيا والفاعل ثالثا يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه وتعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون عن ذلك، والخبر على هذا أيضا جار على ما هو له كما في بعض الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة. وقرأ عيسى بن عمر «يقصرون» بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضا وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد وقتادة والزجاج، أو بآية مقترحة كما روي عن ابن عباس والجبائي وأبي مسلم قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك افتراء، أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه، وهو تهكم منهم لعنهم الله تعالى، ومما ذكرنا يعلم أن لا جتبى معنيين جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الاختلاف في تفسير الآية، وعن علي بن عيسى أن الاجتباء في الأصل الاستخراج ومنه جباية الخراج، وقيل: أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته، ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء، وإلى هذا ذهب الراغب، وفي الدار المصون جبي الشيء جمعه مختارا ولذا غلب اجتبيته بمعنى اخترته.
وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة، وقال ابن زيد: هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه، ومن جعل الأصل شيئا لا ينكر الاستعمال في الآخر مجارا لا يخفى قُلْ ردا عليهم إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي من غير أن يكون لي دخل ما في ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام لا على معنى تخصيص اتباعه صلّى الله عليه وسلّم بما يوحى إليه بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الاستعمال كأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي منه تعالى دون الاختلاف والاقتراح، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا
يخفى هذا إشارة إلى القرآن الجليل المدلول عليه بما يوحى إليّ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب، أو حجج بينة وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه البليغ، وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز المذهب، أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب، وجوز أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك الحقائق، وهذا مبتدأ وبصائر خبره، وجمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها، وقوله سبحانه وتعالى:
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ عطف على بصائر، وتنوينهما للتفخيم، وتقديم الظرف عليهما وتعقيبهما بقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين إذ هم المقتبسون من أنواره والمقتطفون من نواره، وهذا مخالف لما يفهمه كلام البعض من أن الثلاثة للمؤمنين، فقد قال النيسابوري في التفسير: إن البصائر لأصحاب عين اليقين والهدى لأرباب علم اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه والجميع لقوم يؤمنون، وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم، وهذه الجملة على ما يظهر من تمام القول المأمور به.
واحتج بالآية من لم يجوز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه نظر وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن، والاستماع معروف، واللام جوز أن تكون أجلية وأن تكون بمعنى إلى وأن تكون صلة، أي فاستمعوه، والإنصات السكوت يقال: نصت ينصت وأنصت وانتصت إذا سكت والاسم النصتة بالضم، ويقال كما قال الأزهري: أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه، وجاء أنصته إذا أسكته، والعطف للاهتمام بأمر القرآن، وعلل الأمر بقوله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه يقرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فنزلت وإذا قرىء القرآن إلخ.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناسا يقرؤون خلفه فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كما أمركم الله تعالى وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: لا قراءة خلف الإمام.
وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا»
وأخرج أيضا عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من كان له إمام فقراءته له قراءة»
وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ [المزمل: ٢٠]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقراءة»
على طريقة الخصم مطلقا فيخرج المقتدي وعلى طريقتنا أيضا لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعا فجاز التخصيص بعده بالمقتدي بالحديث المذكور، وكذا يحمل
قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: «فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»
على غير حالة الاقتداء جمعا بين الأدلة، بل قد يقال: إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعا فإن قراءة الإمام له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع.
بقي الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعا عن جابر رضي الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام
وقد ضعف. واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني والبيهقي وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفّاظ كالسفيانين وأبي الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وجرير وأبي الزبير وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما يرجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا، وعلى تقدير التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح.
وروى محمد بن الحسن في موطئه قال: أنبأنا أبو حنيفة أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة»
وقولهم: إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح.
فقد قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة».
ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فذكره ولم يذكر جابرا- ورواه عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكره، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها
أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة».
وفي رواية لأبي حنيفة «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظهر أو العصر فأومأ إليه فنهاه فلما انصرف قال: أتنهاني الحديث. نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روي في بعض روايات
حديث «ما لي أنازع في القرآن»
أنه قال: إنه لا بد (١) ففي الفاتحة، وكذا ما
رواه أبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم، قلنا: نعم هذا، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها
ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى إنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود.
وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالا أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة،
وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم، وإلا ففيه نظر، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضا، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فيما قيل: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعا بين الدلائل، وقال آخرون: إنما يقرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع، واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد، على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين، وليس مقتضى أقواهما إلا المنع، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفا لما ذهب إليه الإمام وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد، والحق أن قوله كقولهما، فقد قال في كتاب الآثار بعد ما أسند إلى علقمة بن قيس: إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا يجهر به، وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه، ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها، وذكر في موطئه نحو ذلك، وقال السرخسي تفسد صلاة القارئ خلف الإمام في قول عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط. والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم يسمع أو سمع صوتا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر. فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة، ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة، والأمر بالاستماع إما للوجوب أو الندب، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسألة، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقا.
قال في الخلاصة: رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالاثم على القارئ، وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم، وهذا صريح في إطلاق الوجوب، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإِذا هنا للكلية وغالب الشرطيات القرآنية المؤداة بها كلية، وهذا والمراد من الاستماع في الآية المعنى المتبادر منه، وقال الزجاج: المراد منه القبول والإجابة، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس، ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان، ورجح ذلك العلامة الطيبي قال: وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقا ولا حقا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضا أن المشركين إنما استهزؤوا بالقرآن ونبذوه وراءهم ظهريا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزوه مرتبا للحكم على تلك
الأوصاف، ولذلك قيل: إذا قرىء القرآن وضعا للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية، يعني إذا ظهر أيها المؤمنون أنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون، ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والاستماع من المتكلم، وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم اهـ، ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك.
وقال بعضهم: إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى: في آخر الآية لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بناء على أن ذلك للترجي وهو إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله تعالى: وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها فالاطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارئ كان. وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى. ومن هنا قال بعض الأصحاب: يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيما له، ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر. وقد مدح سبحانه ذاكريه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرا غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك. وإن كانت زوجته، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق. قال النووي: ومذهبنا لا تكره فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارىء طويل. وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه.
والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافا من جهته تعالى، قيل: وعلى الأول فقوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عطف على قل، وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول، وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقال الإمام: المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال، وذلك لأن الذكر باللسان عاريا عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة، بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه أصلا، ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلا به لا يعد مؤمنا عند الله تعالى، وقيل: الخطاب لمستمع القرآن والذكر القرآن، والمراد أمر المأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو التزم قول الإمام، وقوله سبحانه وتعالى: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أي متضرعا وخائفا، أو بتقدير مضاف أي ذا تضرع وخيفة، وكونه مفعولا لأجله غير مناسب.
وجوز بعضهم كون ذلك مصدرا لفعل من غير المذكور وليس بشيء، وأصل خيفة خوفة، ودون في قوله تعالى:
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ صفة لمعمول حال محذوفة أي ومتكلما كلاما دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور، والعطف على تضرعا، وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على حاله، والمراد اذكره متضرعا ومقتصدا.
وقيل: إن العطف على قوله تعالى: فِي نَفْسِكَ لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبمادونه نوع آخر من الجهر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو أن يسمع نفسه وقال الامام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: ١١] ويشعر كلام ابن زيد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر بِالْغُدُوِّ جمع غدوة كما في القاموس، وفي الصحاح الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا. وقوله تعالى: بِالْغُدُوِّ أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها، وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع، وعليه فقد معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى:
وَالْآصالِ وهو كما قال الأزهري جمع أصل، وأصل جمع أصيل أعني ما بين العصر إلى غروب الشمس- فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال، وقيل: إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وإيمان، وقيل: إنه جمع لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا، والجار متعلق باذكر، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الأصيل الأمر بالعكس، أو لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب، وقيل: لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم، وقيل: ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت.
وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي «والإيصال»، وهو مصدر آصل إذا أدخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بافراده ومصدريته فتذكر وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم ملائكة الملأ الأعلى، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك، وقيل: المراد عند عرش ربك لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسبما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم لَهُ وجاز أن يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الإخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنّا مغنون عنكم وعن عبادتكم إن لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة، ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية إرغاما لمن أبى ممن عرض به. قيل: وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالا للأمر، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم، أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح،
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول في سجوده لذلك كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر «اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في سجود القرآن بالليل مرارا «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين»
وجاء عنها أيضا «ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعها له كلتيهما»
وأخرج مسلم. وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي
النار»
واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل، ويوافق ذلك ما
أخرجه أحمد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الذكر الخفي»
وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما يستقبح شرعا وعقلا وعرفا فإنا الله وإنا إليه راجعون.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» وهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الروح وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهي القلب لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليميل إليها ويطمئن فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحات الألطاف فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني والصوفية يقولون: إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كبرت وكثرت آثار الصفات دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً للعبودية لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بحسب الفطرة من القوى جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي جعل أولادهما لله تعالى شركاء فيما آتى أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد الخميصة ومنهم من عبد الدرهم والدينار إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كائنا ما كان عِبادٌ أَمْثالُكُمْ في العجز وعدم التأثير فَادْعُوهُمْ إلى أي أمر كان فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في نسبة التأثير إليهم أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها استفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل بالله عزّ وجلّ إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيما بعد قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ إن استطعتم إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ حافظي ومتولي أمري الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي من قام به في حال الاستقامة وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة، والضمير للكفار خُذِ الْعَفْوَ أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالوجه الجميل، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تكافئهم بجهلهم.
عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية
قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن لا فعل لغيره سبحانه، وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان أحيانا من الغضب وإيماء إلى علاجه بالاستعاذة قال بعضهم:
إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا، وإذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الأزلية فلا سبيل له إلى تركه وحينئذ يتغير غضبه. وقد ورد من عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب، فالاستعاذة بالله تعالى في المعنى طلب الالتجاء إليه باستكشاف ذلك النور، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى تَذَكَّرُوا مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فعالية الله تعالى لا شيطان ولا فاعل غيره سبحانه في نظرهم وَإِخْوانُهُمْ أي اخوان الشياطين من المحجوبين يَمُدُّونَهُمْ الشياطين في الغي وهو نسبة الفعل إلى السوي ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ عن العناد والمراء والجدل، وقالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي جمعتها من تلقاء نفسك قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي لأني قائم به لا بنفسي وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي للقرآن بآذانكم الظاهرة وَأَنْصِتُوا بحواسكم الباطنة، وجوز أن يكون ضمير له للرب سبحانه، أي إذا قرىء القرآن فاستمعوا للرب جل شأنه فإنه المتكلم والمخاطب لكم به لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالسمع الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في
كلامه بصفاته وأفعاله وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله تعالى، وقيل: هو على حد لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١] تَضَرُّعاً وَخِيفَةً حسب اختلاف المقام وَدُونَ الْجَهْرِ أي دون أن يظهر ذلك منك بل يكون ذاكرا به له بِالْغُدُوِّ أي وقت ظهور نور الروح وَالْآصالِ أي وقت غلبات صفات النفس وَلا تَكُنْ في وقت من الأوقات مِنَ الْغافِلِينَ عن شهود الوحدة الذاتية، وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه وتعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ إشارة إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله جل شأنه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين، وفي ذكر الخوف اشعار باستشعار هيبة الجلال كما قال:
أشتاقه فإذا بدا... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة... وصيانة لجماله
وذكروا أن حال المبتدي والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج، فقد يرى له رفع الصوت بالذكر علاجا حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس عليه، وفي عوارف المعارف للسهروردي قدس سره لا يزال العبد يردد هذه الكلمة على لسانه مع مواطأة القلب حتى تصير متأصلة فيه مزيلة لحديث النفس وينوب معناها في القلب عنه فإذا استولت الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة، وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة، وقد يحصل ما ذكر بتلاوة القرآن أيضا إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة اهـ.
ونقل عنه أيضا ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة، وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة، والعبد في إقباله على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد اسماع أهل المدينة الأذان، فالذاكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وإنباء أجزائه وأبعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين بمحاسن الأعمال اهـ.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الفانون الباقون به سبحانه وتعالى أرباب الاستقامة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لعدم احتجابهم بالأنانية وَيُسَبِّحُونَهُ بنفيها وَلَهُ يَسْجُدُونَ بالفناء التام وطمس البقية والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه.
سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم مدنية كما روي عن زيد بن ثابت. وعبد الله بن الزبير، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال: تلك سورة بدر، وفي رواية أخرى أنه قال: نزلت في بدر، وقيل: هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٣٠] الآية فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل، ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة، وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر. واستثنى آخرون قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: ٦٤] الآية وصححه ابن العربي وغيره، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية، وفي البصري والحجازي ست وسبعون. وفي الكوفي خمس وسبعون. ووجه مناسبتها لسورة [الأعراف: ١٩٩] أن فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وفي هذه كثير من أفراد المأمور به. وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ما جرى بينه وبين قومه، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال: ٥٢] وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الأعراف: ٢٠٣] وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: ٢١] وبين جل شأنه فيما تقدم أن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: ٢] إلى غير ذلك من المناسبات، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.
وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد كان يظهر في بادي الرأي أن
المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك في كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا، ثم قال: وأقول: يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها. الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها.
ولهذا قال جماعة من السلف: إنهما سورة واحدة. الثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فانه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة. الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع.
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ب (الر) وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السورة الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فانها ليست كبراءة في الطول.
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح (بالم) وتوالى الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل (بألم)، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها، هذا ما فتح الله تعالى به عليّ، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول فالأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول وجعل الأنفال بعد النور.
ووجه المناسبة أن كلّا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في [النور: ٥٥] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية. وفي [الأنفال: ٢٦] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ إلخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل اهـ.
وأقول: قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد لله تعالى على