آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ

قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قالت المعتزلة: لم يخلقهم اللَّه - تعالى - لجهنم، ولكن خلقهم وذرأهم وأعطاهم من القوة ما يكسبون الجنة، غير أنهم عملوا أعمالا استوجبوا بها النار، فصاروا للنار بما عملوا من الأعمال، لا أن خلقهم لجهنم.
ثم اختلفوا هم في تأويل قوله: (ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر ما إليه آل عاقبة أمرهم؛ كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) لم يلتقطوه ليكون لهم ما ذكر، ولكن إنما التقطوه ليكون لهم ما ذكر بقوله: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، لهذا التقطوه، لكنه صار لهم ما ذكر، أخبر عما إليه آل أمره؛ فعلى ذلك هذا، وكما يقال:
............ لدوا للموت وابنوا للخراب
ولا أحد يلد للموت ولا يبني للخراب، ولكنه أنبأ بما يئول إليه عاقبة أمره من الموت والخراب؛ إلى هذا يذهب عامة المعتزلة.
وقال أبو بكر الأصم: الآية على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولقد ذرأنا كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أُولَئِكَ لجهنم، وأُولَئِكَ كالأنعام.
لكن هذا بعيد؛ لأنه لو جاز هذا في هذا لجاز مثله في جميع القرآن أن يجعل أول الآية في آخرها، وآخرها في أولها، فهذا محال.

صفحة رقم 94

وأما قولهم: إنه إخبار عما آل إليه عاقبة أمرهم، واستشهادهم بقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ...)، فهو يصلح: لمن يجهل عواقب الأمور، يخرج ذلك منه على التنبيه والإيقاظ؛ لما لم يعرفوا عاقبة ما أبه أصار إليه الأمر، فأما اللَّه - سبحانه عالم السر والعلانية وما كان ويكون في الأوقات التي تكون - لا يحتمل ذلك.
وقول الناس:
لدوا للموت، وابنوا للخراب.
فهو إنما يذكرون هذا عند التنبيه والإيقاظ لجهلهم بعواقب الأمور، وإن كانوا لا يبنون، ولا يلدون للموت والخراب، وما قصدوا له.
وأما التأويل عندنا على ما ذكر في ظاهر الآية أنه خلق لجهنم كثيرًا من الجن والإنس، لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الكفر والأعمال الخبيثة التي يستوجبون بها النار خلقهم لجهنم؛ لما علم منهم ذلك في الأزل أنهم يختارون الأعمال الخبيثة فذرأهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون منهم، وكذلك خلق المؤمنين للجنة؛ لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الهدى، ويعملون أعمالًا طيبة يستوجبون بها الجنة، خلقهم للجنة لا أن خلقهم للجنة مرسلًا أو خلقهم لجهنم مرسلا، ولكن لما ذكرنا، والله أعلم.
وأما قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ويطيعه، وأما من علم أنه يكفر به ويعصيه فهو إنما خلقه لما علم أنه يكون منه؛ فمن كان علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة، ومن كان علم منه أنه يكون منه الكفر خلقه لذلك؛ لأنه لا يجوز أن يعلم منه المعصية وفعل الكفر فيخلقه على خلاف ذلك؛ دل أنه على ما ذكرناه، واللَّه أعلم.
أو أن يقال: قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، الفريق الذي علم منه العبادة، لا الكل؛ دليله قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، ولم

صفحة رقم 95

يقل: ذرأنا الكل؛ فهذه في فريق، وهذه في فريق آخر، وهذا التأويل يرجع إلى الخصوص؛ ألا ترى أن الصبيان والمجانين لم يدخلوا فيه؟!
أو أن يكون قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: إلا لأكلفهم العبادة وآمرهم بها؛ فإن كان هذا فهي على الكل: على الكافر والمؤمن جميعًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: ما خلقت الجن والإنس إلا لتشهد خلقتهم على وحدانية اللَّه، وصرف العبادة إليه، وقد شهدت خلقة كل كافر ومؤمن على وحدانية اللَّه، وألوهمته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا).
الفقه: هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبره؛ فهَؤُلَاءِ الكفرة لم يفقهوا؛ لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها، وكذلك قوله: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا) لما نظروا إلى ظواهرها، لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها؛ ليدلهم على تدبير منشئها وحكمته.
وكذلك قوله: (وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) لما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها، وإن كانوا يسمعون النداء، وينظرون ظواهر الأشياء؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفار، وإن كانوا يسمعون ويبصرون ما ذكرنا بعد أن لم

صفحة رقم 96

يفقهوا معانيها وتدبير مدبرها، فهم كالأنعام.
وأصله: أنهم لما لم يستعملوا تلك الحواس فيما جعلت لهم، وإنما جعلت لهم لمعرفة حقائق الأشياء، وما أدرج فيها من المعاني والحكمة، فصاروا في الحقيقة كمن لا حواس له؛ إذ لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك؛ لذلك نفى عنهم، واللَّه أعلم.
وقال قائلون: نفى عنهم هذه الحواس؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك الحواس للمعنى الذي جعلت تلك الحواس، فهم كالأنعام، بل هم أضل؛ لأن هَؤُلَاءِ إذا ضلوا الطريق فهدوا وأرشدوا لا يهتدون ولا يرجعون عن ذلك، والدواب إذا ضلوا الطريق فهدوا اهتدوا، وعرفوا، ومالوا إليه، فهم أضل من الأنعام لما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَل هُم أَضَلُّ) لأن بنية الأنعام لا تحتمل فهم ذلك، وبنية هَؤُلَاءِ تحتمل؛ إذ جعل لهم عقولاً تميز وتعرف حكمة مدبرها ومنشئها، لكنهم ضيعوها، ولم يكن من الأنعام تضييع؛ لذلك كان أُولَئِكَ أضل.
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) لما ختم اللَّه على قلوبهم؛ كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) فمن ثَمَّ لم تفقه قلوبهم، ولم تبصر أعينهم، ولم تسمع آذانهم.
وقال: ثم ضرب لهم مثلا فقال: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) في الأكل؛ لأن همتهم ليست إلا الأكل والشرب، كهمة الأنعام والبهائم ليست همتهم إلا الأكل والشرب وقضاء الشهوة، فهي تسمع النداء ولا تعقل؛ فعلى ذلك الكافر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) في فهم ما ألقي إليهم (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)؛ لأنهم أعطوا سبب فهم ذلك، والأنعام لا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)؛ لأن الأنعام تعرف ربها، وتوحده، وتذكره؛ لقول اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، الآية، وكقوله: (كُلٌّ

صفحة رقم 97
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية