
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٦ الى ١٨٠]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)يقول الله عز وجل: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك، والضمير في: بِها عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له، وقال ابن أبي نجيح لَرَفَعْناهُ معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها، والضمير على هذا عائد على الآيات، ثم ابتدأ وصف حاله، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى لَرَفَعْناهُ أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فالكلام متصل، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره، فمن أوتي هذا، وأَخْلَدَ معناه لازم وتقاعس وثبت، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد، ومنه قول زهير: [الكامل].
لمن الديار غشيتها بالفدفد | كالوحي في حجر المسيل المخلد |
قال القاضي أبو محمد: وذلك داخل في جملة المشقة التي ذكرنا، وقوله: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك. فمثلهم كمثل الكلب، وقوله: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ذلك فيؤمنون.
وقوله: ساءَ مَثَلًا قال الزجاج: التقدير ساء مثلا مثل القوم، لأن الذي بعد «بئس» و «نعم» إنما صفحة رقم 478

يتفسر من نوعه، كما تقول بئس رجلا زيد، ولما انحذف مثل أقيم القوم مقامه، والرفع في ذلك بالابتداء، والخبر فيما تقدم، وقرأ الجحدري «ساء مثل القوم، ورفع مثل على هذه القراءة ب ساءَ، ولا تجري ساءَ مجرى «بئس» إلا إذا كان ما بعدها منصوبا، قال أبو عمرو الداني: قرأ الجحدري «مثل» بكسر الميم ورفع اللام، وقرأ الأعمش «مثل» بفتح الميم والثاء ورفع اللام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خلاف ما ذكر أبو حاتم فإنه قال: قرأ الجحدري والأعمش «ساء مثل» بالرفع.
وختمت هذه الآيات التي تضمنت ضلال أقوام والقول فيه بأن ذلك كله من عند الله، الهداية منه وبخلقه واختراعه وكذلك الإضلال، وفي الآية تعجب من حال المذكورين، ومن أضل فقد حتم عليه بالخسران، والثواب والعقاب متعلق بكسب ابن آدم.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خبر من الله تعالى أنه خلق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيرا، وفي ضمنه وعيد للكفار، و «ذرأ» معناه خلق وأوجد مع بث ونشر، وقالت فرقة اللام في قوله: لِجَهَنَّمَ هي لام العاقبة أي ليكون أمرهم ومئالهم لجهنم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وهذه اللام مثل التي في قول الشاعر:
يا أم فرو كفي اللوم واعترفي | فكل والدة للموت تلد |
وصفت هذه الصنيفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه، والفقه الفهم، وأعينهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول: فلان أصم عن الخنا.
ومنه قول مسكين الدارمي: [الكامل أحذ مضمر] صفحة رقم 479

أعمى إذا ما جارتي خرجت | حتى يواري جارتي الستر |
وأصم عمّا كان بينهما | عمدا وما بالسمع من وقر |
وعوراء الكلام صممت عنها | ولو أني أشاء بها سميع |
وبادرة وزعت النفس عنها | وقد بقيت من الغضب الضلوع |
وادخل إذا ما دخلت أعمى | واخرج إذا ما خرجت أخرس |
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الآيات، السبب في هذه الآية على ما روي، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي ﷺ يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال: محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة فنزلت هذه والْأَسْماءُ هنا بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره، والْحُسْنى: مصدر وصف به، ويجوز أن تقدر الْحُسْنى فعلى مؤنثه أحسن، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] وكما قال يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠] وهذا كثير، وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها، والنص عليها، وانضاف إلى ذلك أيضا أنها إنما تضمنت معاني حسانا شريفة.
واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحا خالصا ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك، إلا أنه لم ير منصوصا هل يطلق ويسمى الله به؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك، والفقهاء والجمهور على المنع، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضا، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحا خالصا لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعا، واختلف أيضا في الأفعال التي في القرآن مثل قوله: اللَّهُ صفحة رقم 480