
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلْ يُرِيدُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ اللَّه وَيَخْذُلْهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ خَسِرُوا الدنيا والآخرة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
[في قوله تَعَالَى وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ] هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ أَنَّهُ خَلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِجَهَنَّمَ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى بَيَانِ اللَّه. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ انْقَلَبَ عِلْمُ اللَّه جَهْلًا وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَعَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي النَّارِ مُحَالٌ، وَمَنْ عَلِمَ كَوْنَ الشَّيْءِ مُحَالًا امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ فِي النَّارِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لفظ الآية. الثالث: أن القار عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَانِ، فَالَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكُفْرِ، فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْإِيمَانِ مَعًا امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَصَلَ مِنْ قِبَلِهِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ حَصَلَ مَنْ قِبَلِهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر، فَقَدْ خَلَقَهُ لِلنَّارِ قَطْعًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُ لِلْجَنَّةِ وَأَعَانَهُ عَلَى اكْتِسَابِ تَحْصِيلِ مَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَدَّرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ سَعَى فِي تَحْصِيلِ الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلدُّخُولِ فِي النَّارِ، فَحِينَئِذٍ حَصَلَ مُرَادُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ أَقْدَرَ وَأَقْوَى مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ الْمُوجِبَةَ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْكُفْرُ وَالْجَهْلُ عَلَى خِلَافِ قَصْدِ الْعَبْدِ وَضِدِّ جَهْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حُصُولُهُ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى.
فَإِنْ قَالُوا: الْعَبْدُ إِنَّمَا سَعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ الصَّحِيحُ.
فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِنَّمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْجَهْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ لِجَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى جَهْلٍ حَصَلَ ابْتِدَاءً لَا لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْإِلْزَامُ وَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ نَاطِقَةٌ بِصِحَّةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الطَّاعَةَ. وَالْعِبَادَةَ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْفَتْحِ: ٨، ٩] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ٦٤] وَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الْفُرْقَانِ: ٥٠] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْحَدِيدِ: ٩] وَقَالَ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيدِ: ٢٥] وَقَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: ١٠] وَقَالَ: وَما خَلَقْتُ

الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي الْقُرْآنِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَوْ كانوا مخلوقين للنار، ولما كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَقْبُحُ ذَمُّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُمْ لِلنَّارِ لَمَا كَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ نِعْمَةٌ أَصْلًا، لِأَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِالْقِيَاسِ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ، كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ كَمَنْ دَفَعَ إِلَى إِنْسَانٍ حَلْوًا مَسْمُومًا فَإِنَّهُ لَا يكون منعماً عليه، فكذا هاهنا. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا مِنْ كَثْرَةِ نِعْمَةِ اللَّه عَلَى كُلِّ الْخَلْقِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا ذَكَرْتُمْ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي يَنْصُرُونَهُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَوْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِلنَّارِ، لَوَجَبَ أَنْ يَخْلُقَهُمُ ابْتِدَاءً فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَسْتَدْرِجَهُمْ إِلَى النَّارِ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِمْ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ/ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الْمُعَيَّنُ مُرَادًا مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى بِخَلْقِهِمْ مِنْهُمْ مَحْذُوفٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِكَيْ يَكْفُرُوا فَيَدْخُلُوا جَهَنَّمَ، فَصَارَتِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ مَتْرُوكَةَ الظَّاهِرِ، فَيَجِبُ بِنَاؤُهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَصِحُّ دُونَ حَذْفٍ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا ذَرَأَهُمْ لِكَيْ يَكْفُرُوا فَيَصِيرُوا إِلَى جَهَنَّمَ، عَادَ الْأَمْرُ فِي تَأْوِيلِهِمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ، لَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا لِلْعَاقِبَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لِلنَّارِ، وَنَحْنُ قَدْ قُلْنَاهَا عَلَى عَاقِبَةٍ حَاصِلَةٍ مَعَ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، هِيَ الدُّخُولُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، جَائِزٌ ذِكْرُ هَذِهِ اللَّامِ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَامِ: ١٠٥] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَا صَرَّفَهَا لِيَقُولُوا ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، حَسُنَ وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يُونُسَ: ٨٨] وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] وَهُمْ مَا الْتَقَطُوهُ لِهَذَا الْغَرَضِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ ذَلِكَ، حَسُنَ هَذَا اللَّفْظُ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَأَبْيَاتٌ قَالَ:
وَلِلْمَوْتِ تَغْدُوا الْوَالِدَاتُ سِخَالَهَا | كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى الْمَسَاكِنُ |
أَمْوَالُنَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ نَجْمَعُهَا | وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا |

لَهُ مَلَكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ | لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ |
وَأُمَّ سِمَاكٍ فَلَا تَجْزَعِي | فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَةُ |
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصِيرَ فِي التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ امْتِنَاعُ الْعَقْلِ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَبَثًا. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهِيَ: مُعَارَضَةٌ بِالْبِحَارِ الزَّاخِرَةِ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ١٧٨] وَهُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِنَا، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَافِ: ١٨٢، ١٨٣] وَلَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ، إِلَّا مَا يُقَوِّي قَوْلَنَا وَيُشَيِّدُ مَذْهَبَنَا، كَانَ كَلَامُ/ الْمُعْتَزِلَةِ فِي وُجُوبِ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفًا جِدًّا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا مَصَالِحَهُمُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدُّنْيَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا الْمَرْئِيَّاتِ، وَآذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الْكَلِمَاتِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْيِيدَهَا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ، وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ بِتَحْصِيلِ الدِّينِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ مَا كَانَتْ صَالِحَةً لِذَلِكَ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْعِ عَنِ الشَّيْءِ وَالصَّدِّ عَنْهُ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ، لَقَبُحَ مِنَ اللَّه تَكْلِيفُهُمْ، لَأَنَّ تَكْلِيفَ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ قَبِيحٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَكِيمِ. فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ بِكَثْرَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا صَارُوا مُشْبِهِينَ بِمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ فَاهِمٌ وَلَا عَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَلَا أُذُنٌ سَامِعَةٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَأَكَّدَتْ نَفْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ، صَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ الْمُتَأَكِّدَةُ الرَّاسِخَةُ مَانِعَةً لَهُ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَمَانِعَةً عَنْ إِبْصَارِ مَحَاسِنِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ يَجِدُهَا كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا فِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ- حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ-.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْكُفَّارِ بَلَغُوا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي بُغْضِهِ وَفِي شِدَّةِ النَّفْرَةِ عَنْ قَبُولِ دِينِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِرِسَالَتِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ وَأَقْوَى مِنْهُ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ حُصُولَ الْبُغْضِ وَالْحُبِّ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي الْقَلْبِ شَاءَ الْإِنْسَانُ أَمْ كَرِهَ. صفحة رقم 410

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ النَّفْرَةُ وَالْعَدَاوَةُ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ مَعَ تِلْكَ النَّفْرَةِ الرَّاسِخَةِ وَالْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ تَحْصِيلُ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْجَبْرِ لُزُومًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خُطْبَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
رَوَى الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «مناقب الشافعي» رضي اللَّه تعالى عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ/ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ وَأَعْجَبُ مَا فِي الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ فِيهِ مَوَادٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَأَضْدَادِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَوْلَهَهُ الطَّمَعُ، وَإِنْ هَاجَ لَهُ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَإِنْ أَهْلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَإِنْ سَعِدَ بِالرِّضَا شَقِيَ بِالسُّخْطِ، وَإِنْ نَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحُزْنُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ الْمُصِيبَةُ قَتَلَهُ الْجَزَعُ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَإِنْ عَضَّتْهُ فَاقَةٌ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ، وَإِنْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَكُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ
وَأَقُولُ: هَذَا الْفَصْلُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ، وَهُوَ كَالْمُطَّلِعِ عَلَى سِرِّ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ الْقُلُوبِ، وَكُلُّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فَإِنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى حَصَلَتْ قَبْلَهَا، وَإِذَا وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْجَبْرِ، وَذَكَرَ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» فَصْلًا فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الْجَبْرِ.
ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ: إِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ تَرَكْتُ، فَيَكُونُ فِعْلِي حَاصِلًا بِي لَا بِغَيْرِي ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ أَنَّكَ وَجَدْتَ مِنْ نَفْسِكَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: وَهَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَشَاءَ شَيْئًا شِئْتَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ لَا تَشَاءَ لَمْ تَشَأْهُ، مَا أَظُنُّكَ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَذَهَبَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ: بَلْ شِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ فَإِنَّكَ تَشَاءُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَإِذَا شِئْتَهُ فَشِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ فَعَلْتَهُ، فَلَا مَشِيئَتَكَ بِهِ وَلَا حُصُولَ فِعْلِكَ بَعْدَ حُصُولِ مَشِيئَتِكَ بِكَ فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْفِقْهُ وَالْفَهْمُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ مَحَلُّ الْفَهْمِ وَالْفِقْهِ هُوَ الْقَلْبُ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَشَارِكَةٌ فِي قُوَى الطَّبِيعَةِ الْغَاذِيَةِ وَالنَّامِيَةِ وَالْمُوَلِّدَةِ، وَمُتَشَارِكَةٌ أَيْضًا فِي مَنَافِعِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَفِي أَحْوَالِ التَّخَيُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ: فَلَمَّا أَعْرَضَ الْكُفَّارُ عَنِ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ كَانُوا كَالْأَنْعَامِ.
ثُمَّ قَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ، وَالْإِنْسَانُ أُعْطِيَ الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهَا كَانَ أَخَصَّ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَكْتَسِبْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ وَقَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ:
الرُّوحُ عِنْدَ إِلَهِ الْعَرْشِ مَبْدَؤُهُ | وَتُرْبَةُ الْأَرْضِ أَصْلُ الْجِسْمِ وَالْبَدَنِ |
قَدْ أَلَّفَ الْمَلِكُ الْحَنَّانُ بَيْنَهُمَا | لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الْأَمْرِ وَالْمِحَنِ |
فَالرُّوحُ فِي غُرْبَةٍ وَالْجِسْمُ فِي وَطَنٍ | فَاعْرِفْ ذِمَامَ الْغَرِيبِ النَّازِحِ الْوَطَنِ |