
هذا فقد غرهم بالله الغرور، وقالوا: لن تصيبنا النار إلا أياما معدودات إذ نحن أبناء الله وأحباؤه.
وإن مكن لهم وصادفهم مال من طريق غير شرعي كالربا أو الرشوة أو ببيع أحكام الله أخذوه ولم يتعظوا ولم يتوبوا، إن تعجب فعجب هذا! ثم رد الله عليهم قولهم سيغفر لنا وهم مقيمون على المعاصي فقال:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب؟! وفيه أن الكذب على الله من أكبر الكبائر، وهم قد درسوه وفهموه، وفيه أن أكل مال الغير حرام، وأن الاعتداء على الغير بأى لون حرام، ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها خير من الدنيا وما فيها، وأن الدار الآخرة خير للذين يتقون الله ويخافون عذابه، أعميتم فلا تعقلون أن الآخرة خير وأبقى؟! وليس القرآن متحديا أو متعصبا، بل الذين يتمسكون بالكتاب وما فيه من أحكام ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة سواء كانوا من اليهود أو من غيرهم فسيجازيهم ربهم أحسن الجزاء إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف آية ٣٠].
واذكر وقت أن رفعنا عليهم الجبل لما أبوا أن يقبلوا التوراة، فلما رفعناه فوقهم حتى أظلهم، واضطربت قلوبهم منه، خروا ساجدين على حواجبهم اليسرى، وقيل لهم:
خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واذكروا ما فيه دائما واعملوا به دائما رجاء أن تملأ قلوبكم بالتقوى فتصدر أعمالكم موافقة للدين وفي هذا فلاح لكم وخير...
الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم [سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)

المفردات:
أَخَذَ: أخرج، وإنما عبر به لأنه يدل على الاصطفاء والتمييز. مِنْ ظُهُورِهِمْ الظهر: الجزء المهم في جسم الإنسان وهو ما فيه العمود الفقرى.
هذا كلام جديد، سيق لإلزام اليهود مع غيرهم بالميثاق العام، بعد أن ألزمهم بالميثاق الخاص، وللاحتجاج عليهم بالحجج العقلية والسمعية، ولقطع أعذارهم في التقليد.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن أخذ ربك من ظهور بنى آدم ذريتهم، والأخذ من ظهور بنى آدم يلزمه الأخذ من ظهر آدم نفسه، وفي هذه الآية الكريمة رأيان: رأى للسلف ورأى للخلف- رضى الله عنهم- جميعا، أما السلف فيقولون: إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة، أما الخلف فيقولون: هذا من باب التمثيل والتصوير، فلا سؤال ولا جواب، وإنما الله- سبحانه- بما ركب في بنى آدم من العقول والإدراك وبما نصب من الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله. كأنه قال للخلق: قروا بأنى ربكم، ولا إله غيرى، وكأنهم قالوا بلسان الحال: نعم أنت ربنا، ولا إله غيرك، فنزل تمكينهم من العلم، وتمكينهم منه منزلة الشهادة والاعتراف، وهذا أسلوب في القرآن والسنة وكلام العرب كثير: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت آية ١١].
وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا تبديل لخلقه
«كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» حديث شريف.
فعل الله بكم هذا مخافة أن تقولوا يوم القيامة، عند سؤالكم عن أعمالكم: إنا فعلنا هذا لأنا كنا غافلين عن التوحيد، ولم ينبهنا أحد إليه، فلا عذر لكم بالجهل بعد نصب الأدلة، ووجود العقل والفطرة.
ومخافة أن تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، ونحن خلف لهم، قلدناهم في