آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ

الْحَجَرَ»
فضربه عليه السلام «فَانْبَجَسَتْ» ترشحت عن ماء قليل وهو معنى الانبجاس ولم تكرر هذه في القرآن أيضا، وجاء في الآية ٦٠ من البقرة في ج ٣ (انفجرت) أي خرج منها ماء كثير، قال يعبر بالانبجاس اعتبارا بأول الخروج، وبالانفجار اعتبارا بنهايته «منه» أي الحجر المضروب «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» لكل سبط عين «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» منها على حدة لئلا يدخل سبط على الآخر فيأخذ من سقائه فيختلفوا والله أكرم من أن يجعل على عباده عذابين، عذاب التيه وعذاب الاختلاف، ثم شكوا إلى موسى بعد أن أمن لهم شربهم عدم وجود ما يظلهم من الشمس فدعا الله ربه فأجابه بقوله: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ» بحيث صار يسير معهم إذا ساروا ويسكن إذا وقفوا ثم شكوا إليه الجوع إذ نفد ما عندهم فدعا ربه فأجابه بقوله «وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» المنّ معروف شيء حلو لزج يضرب إلى البياض، والسلوى نوع من الطير يسمى الآن السمن أميز من العصفور، جلّت قدرته هو الذي شردهم جزاء مخالفتهم، وهو الذي تلطف بهم وتعطف عليهم وقال لهم «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من الماء العذب والمن الحلو والسلوى الدسم والظل الوافر طيلة مدة تيهكم «و» هؤلاء لما كفروا بهذه النعم الجليلة التي تأتيهم دون تعب وقالوا قد سئمنا منها، كما سيأتي في الآية ٦١ من البقرة من ج ٣ «ما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١٦٠» بتضجرهم وعدم صبرهم كأن لهم علينا منّة ويتطلبون ما تهوى أنفسهم، ولم يعلموا أنا إنما نعاقبهم لسوء أعمالهم. ونرحمهم لعلهم يرجعون إلينا تائبين، لأن المكلف إذا مر بشيء فعدل إلى غيره كان هو الجاني على نفسه، وهو الظالم لها، لأنه أوردها للشرّ، فيكون وبال ظلمه عليه لا على غيره.
مطلب أسباب تشرد بني إسرائيل والآيات المدنيات:
ثم شرع جل شأنه يقص علينا أسباب تشردهم وعملهم الذي أوجبه فقال (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) بواسطة نبيهم عليه السلام «اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» بيت المقدس

صفحة رقم 441

المبارك «وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ» من ثمارها وفواكهها وحبوبها وبقلها «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا شكرا للنعم الموجودة فيها، مما لم يكن لكم مثله قبل «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» تعظيما للبيت وإجلالا لربه الذي أنعم عليكم بدخولها ومنحكم من خيراتها وبركاتها «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ» المتراكمة عليكم وأحسنوا لأنفسكم وغيركم لأنا «سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ١٦١» على المغفرة ثوابا من إفضالنا، وخيرا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» أو أمرنا هذه ولم يقدروا نعمنا عليهم وقالوا «قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فبدل الحطة قالوا خطة، وبدل أن يدخلوا الباب ساجدين احتراما لنا خاضعين لأوامرنا دخلوه زحفا على أستاههم «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ» بسبب مخالفتهم هذه «رِجْزاً» عذابا شديدا نازلا عليهم «مِنَ السَّماءِ» وهو الموت والفرق بين أنزلنا وأرسلنا أن الإرسال يدل على الكثرة، والإنزال على القلة وذلك «بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ١٦٢) أنفسهم لخروجهم عن الطاعة وسيأتي زيادة تفصيل لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية ٥٨ من سورة البقرة من ج ٣. وهذه أولى الآيات المدنيات في هذه السورة، وهي كما ذكرنا في مثلها مغرضة بين ما قبلها وما بعدها كالمستطردة قال تعالى (وَسْئَلْهُمْ)
يا أكمل الرسل يريد اليهود الموجودين معه في المدينة «عَنِ الْقَرْيَةِ»
هي طبرية وقيل مدينة بين مدين والطور أو مصر والمدينة أو بين مدين وعيوني على الساحل «الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» قريبة منه على ساحله والحاضرة المدينة الكبيرة المرتبط بها غيرها من القرى والقصبات، ويقال لساكنها حضريّ ضد البادية فالمخيم بها بدويّ «إِذْ يَعْدُونَ» يتعدون حدود الله ويتجاوزون أوامره التي سنّها لهم وأوجبها عليهم «فِي السَّبْتِ» الذي حرم عليهم العمل فيه ثم بين تعديهم بمناسبة ذكرى مخالفتهم المذكورة آنفا فقال «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» ظاهرة متتابعة على وجه الماء «وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» وهذا من قبيل الإلهام لهذه الحيوانات كأنها تعلم أن أحدا لا يعارضها يوم السبت فتظهر

صفحة رقم 442

وتتلهى على الساحل وتعلم أنها تصاد في غيره فتختفي «كَذلِكَ» مثل هذا الاختبار والابتلاء «نَبْلُوهُمْ» نمتحنهم «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٣» يخرجون من طاعتنا ونحن أعلم بما يقع منهم قبل الاختبار، ولكنا نظهره لعبادنا ليعلموا حال المخالفين لهم، وإنا لا نعذب أحدا بغير ذنب وقد نثيب بغير عمل تفضلا منا. وهذه الآية من الأخبار بالغيب معجزة له صلّى الله عليه وسلم تجاه يهود زمانه إذ أخبرهم بما وقع في أسلافهم بمخالفة الله أدت لمسخهم قردة وخنازير كما في الآية ١٦٥ الآتية ونظريتها الآية ٦٠ من سورة المائدة من ج ٣ فقد أخبرهم صلّى الله عليه وسلم ما اقترفه آباؤهم زمن سيدنا داود عليه السلام، مع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يخرج من مكة طيلة عمره حتى هاجر إلى المدينة وفي المدينة لم يطلع على كتب الأقدمين لعدم معرفته القراءة، وهم يعلمون ذلك، وسبب مسخهم أنهم كانوا حفروا حياضا وسقوا لها ساقية متصلة بالبحر فصارت الأسماك تدخلها يوم السبت على حسب عادتها لعدم المعارضة لها ولم تعرف ماحيك لها من الحيل، فسدّوا عليها طرف الساقية من جهة البحر يوم السبت وتركوها حتى إذا دخل يوم الأحد اصطادوها، فعاقبهم الله بالمسخ، ولهذا قال بعض العلماء من أكل الربا بالحيلة حشر يوم القيامة على صورة القردة والخنازير، كما سيأتي في الآية ٢٧٤ من البقرة من ج ٣، قال تعالى «وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ» جماعة «مِنْهُمْ» أي يهود ذلك الزمن لأنهم بعد اقترافهم هذا الذنب بالحيلة والمكر افترقوا ثلاث فرق: فرقة تطاولت فتعدت حدود الله باقترافهم صيد السمك على تلك الصورة، وفرّقة سكتت ولم تشاركهم في خداعهم هذا ولم تنههم عنه، وفرقة نهت وامتنعت من المشاركة وحذّرت الفاعلين غضب الله. كما كانت حالتهم في عبادة العجل إذ افترقوا ثلاث فرق أيضا كما مر في الآية ١٤٨.
مطلب الرضى بالمعصية معصية
: فقال الساكتون للناجين «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك، لئلا نكون قد

صفحة رقم 443

فرطنا في واجبنا المطلوب منها وهو النهي، لئلا نعد راضين بفعلهم، لأن الساكت عن فعل منهى عنه كالراضي به، والراضي كالفاعل. وفيه تقريع للفرقة الساكتة، لأن سكوتهم قد يعد رضى وإقرارا في بعض الأحوال. لهذا روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وجاء في حديث آخر: (ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من لا ينكر عليهم إلا عمّهم الله بعذابه). ثم قال تعالى على لسان الناهين «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ١٦٤» الله فيما فعلوا فيرجعوا إليه خوفا من عقابه وينتفعوا بموعظتنا، وإنا طمعا بارتداعهم وتوبتهم نصحناهم قياما بالواجب المترتب علينا، قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا» هؤلاء المخالفون «ما ذُكِّرُوا بِهِ» من قبل الناهين ولم يقبلوا موعظتهم «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» لأنهم قاموا بما هو مترتب عليهم ولم يسكنوا ليؤاخذوا بسكوتهم الذي يعد رضى منهم «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ» عظيم محزن مخز «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٥» يخرجون عن طاعتنا والفرق بين يفسقون ويظلمون أن الظالمين من وصفوا بالظلم والفاسقين من خرجوا عن الطاعة، وإنما عد تركهم نسيانا لإهمالهم الأخذ بنصح جماعتهم وتشبيه التارك بالنّاسي استعارة، والجامع بينهما عدم المبالاة في كل، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقته السببية، ولم يحمل على ظاهره لأن النسيان في شريعتنا لا يؤاخذ عليه، والترك عن عمد يترتب عليه العقاب. روى ابن ماجه عن البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
(إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما في شريعة موسى عليه السلام فالنسيان مؤاخذ عليه، وكذلك الخطأ، كما مرّ في تفسير الآية ١٥٧، وقوله صلّى الله عليه وسلم رفع، يدل على عدم العذاب في شريعتنا على الثلاثة الواردة في الحديث والعقاب على من قبلنا عليها وإلا لم يقل رفع، تأمل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فلا أدري ما فعل الله بالفرقة الثالثة الساكتة وجعل يبكي، فقال عكرمة جعلني الله

صفحة رقم 444

فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما عليه الفرقة المقترفة وقالوا للفرقة الناهية لم تعظون إلخ الآية، إنه وإن لم يقل أنجيتهم فلم يقل أهلكتهم، فأعجبه قولي وأمر لي ببردين وكسانيهما، وقال نجت الساكتة يؤيده قول يمان بن رباب نجت الطائفتان وهو قول الحسن أي الآمرة والساكتة، أما ما قاله ابن زيد وروي عن أبي عبد الله:
نجت الناهية فقط فمستبعد هذا على شريعتنا، أما على شريعة موسى فلا وعلى كل فالله تعالى أكبر وأكرم قال تعالى «فَلَمَّا عَتَوْا» أبوا الرجوع «عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» تكبرا وأنفة «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ١٦٦» أذلاء صاغرين منسوخين فكانوا كذلك.
مطلب في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام:
قال تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أعلم وفيه معنى التوعد والتهديد لافترانه بالقسم الدالّ عليه وجود لامه في قوله «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي اليهود، لأنهم بدلوا وغيروا أحكام التوراة وأجروا أحكام ما بقي منها على الضعيف دون القوي، وحرّفوا كثيرا منها، وكذلك فعل النصارى في الإنجيل لما رأوا أن حضرة الرسول يخبر عما فيهما، وكانوا قبلا يحورون ما يتعلق بالأحكام فقط، فلما ظهر الرسول صاروا يرفعون منها ما يتعلق بأوصافه صلّى الله عليه وسلم قصد نهي اتباعهم له والإيمان به، مع أن الواجب عليهم إبقاؤها والإيمان بما جاء فيها مصدقا للقرآن أخزاهم الله، ولهذا أقسم الله جل شأنه على الجزم بأنه ليرسلنّ عليهم «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ» يكلفهم على الدوام «سُوءَ الْعَذابِ» أقساه وأشده مما لا رحمة فيه «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» إذا شاء عقاب أمثال هؤلاء في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٦٧» لمن آمن ورجع عن كفره ودخل بالإسلام فلم يعاقبه ولم يسأله عما فعل لعظيم مغفرته وكبر عفوه، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
ومن جملة إذلال اليهود وإصغارهم أنهم صاروا يؤدون الجزية إلى المجوس لما سلّط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وملوك الروم، فساموهم وأهانوهم، ولم يزالوا كذلك محتقرين إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم، فقبل من أسلم منهم ومن لم يسلم قبل منه الجزية

صفحة رقم 445

فأدوها له صاغرين، وهي ملازمة لهم إلى يوم القيامة إن شاء الله، ولولا أن الله تعالى منعه من قتالهم لدمرهم ولم يبق منهم أحدا، ولكن لله حكم لا تعيها عقولنا وهم في زماننا محقّرون أيضا مهانون يعطون أضعاف الجزية التي كانوا يؤدونها للمسلمين إلى الانكليز والأمريكان الذين لا يقيمون لهم وزنا كالإسلام الذين ساووهم في كافة الحقوق اتباعا لقوله صلّى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم أخزاهم الله أعداء الداء للإسلام، لا يذكرون معروفهم ولا يعترفون بإحسانهم، وإن العز الذي يتوقعونه في فلسطين بواسطة المذكورين في هذا الزمن الذي نحن فيه ويتطاولون إليه سيكون إن شاء الله الذل والصغار لهم فيه، لأنه إنما يكون- لا كونه الله لهم- تحت رقابة الأمريكيين وهو الاستعمار بعينه، راجع الآية ٧ من سورة الإسراء الآتية، فنسأل الله أن يجمع كلمة الإسلام ويهلك الصهيونيين، وإن من بقي مشردا منهم بآخر الزمن يتبعون الدّجال ويدعون إلهيته، فيزدادون كفرا على كفرهم، لأنهم يزعمونه المسيح الذي أخبر به موسى عليه السلام وأوجب عليهم اتباعه، ولم يعلموا بل يعلمون ويجحدون أن المسيح عيسى بن مريم الذي كذبوه وناوءوه عتوا وعنادا وحبا ببقاء الرئاسة لهم وقصدوا قتله قاتلهم الله، فأنجاه منهم ربه وحفظه من أن تنال قدسيته أيديهم القذرة، فألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء دراهم معدودة، مثل قيمة يوسف عليه السلام التي ابتاعه فيها اخوته قبل تشرّفهم بالنبوة، راجع تفسير الآية ٩ من سورة يوسف في ج ٢، إذ ما من نبي إلا وله منافق، يدلك على هذا قوله تعالى في الآية ٣١ من سورة الفرقان الآتية فقد جعل الله لموسى السّامري، ولمحمد عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا لعيسى عليهم السلام، فقتل هذا الخبيث جزاء وفاقا وصلب وبصق عليه وسخر به، إذ يقولون له أنت المعلم لماذا لا تخلص نفسك وكنت جئت بخلاص العالم ولم يقبلوا منه ما اعتذر به بأنه ليس المعلم (أي عيسى إذ كانوا يسمونه معلما) أنا الذي دللتكم عليه، فيزيدونه لكما ولطما وصفعا وبصاقا، ويقولون له الآن تنكر نفسك وكنت تدعي النبوة وخراب الهيكل إلى غير ذلك، كما سيأتي توضيحه في الآية ١٥٨ من

صفحة رقم 446

سورة النساء في ج ٣ وذلك أن الله تعالى الكامل إذا جعل شيئا جعله كاملا فلما ألقى شبهه على يهوذا صار كأنّه هو عيسى نفسه، ولذلك فإن أمه والنساء معها لم ينكرن أنه هو حقيقة، لذلك صرن يبكين عليه وحزنّ لأجله، إذ لا يستطيع أحد أن يقول ليس هو بعيسى، هذا وإن الله تعالى سيهلك الدجال مسيح اليهود وأتباعه على يد مسيح المسلمين الذي سمي مسيحا لأنه يمسح بيده المريض والأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن الله تعالى حالا، بخلاف مسيح اليهود الذي هو الدجال، فإنه إنما سمي مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى أعور أشقر، فأين هذا من ذاك، وإن الله تعالى لا بدّ وأن يسلط على يهود زماننا من يهلكهم ويزيد في ذلهم وصغارهم، وسنورد الأحاديث الصحيحة الدالة على نزول عيسى وقتله الدجال واقامة القسط في الأرض بين الناس في الآية ٦١ من سورة الزخرف في ج ٢ إن شاء الله تعالى القائل «وَقَطَّعْناهُمْ» أي اليهود قطعهم الله وأخزاهم «فِي الْأَرْضِ أُمَماً» فرقا وطوائف مشتتين محقرين فلا تجد أرضا خالية منهم أخلاهم الله منها ولا بلدا إلا وفيها منهم غير حماة، ولذا قيل حماها الله من كل ظالم أي كل يهودي لأنه لا يكون إلا ظالما، وهذا حتى تستقيم القاعدة (ما من عموم إلا وخصص) ولا يعلم السبب في حماية حماة من اليهود إلا أهل حمص الذين قلدوهم بذلك، لأن كلا من أهالي هاتين البلدتين يعرف خبايا الآخر على الحقيقة وزيادة (وهذه نكتة أتينا بها هنا) قال تعالى «مِنْهُمُ» اليهود الأولون على زمن موسى فمن بعده حتى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم «الصَّالِحُونَ» الذين ثبتوا على دينهم فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى ماتوا عليه قبل بعثة عيسى عليه
السلام، والذين أدركوا عيسى وآمنوا به وبقوا على إيمانهم حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم وماتوا على ذلك، والذين أدركوا محمدا وآمنوا به وماتوا على إيمانهم فهم صالحون من أهل الجنة، لأن الله تعالى لا يظلم حق أحد والقرآن كلام الله لم يغمط حق أحد أيضا ولا يغفل ذكره كيف وهو القائل في كتابه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام في ج ٢ «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فسقة ومخطئون، لأنهم خالفوا بعض الأوامر وامتثلوا بعضها وماتوا قبل بعثة عيسى

صفحة رقم 447

ومحمد- عليهما السلام- على الصورة المذكورة أعلاه، ومنهم كفرة وهم الذين غيروا وبدلوا وحرفوا وكفروا بعيسى ومحمد وكتابهما، وهؤلاء لم يشر إليهم القرآن هنا اكتفاء بما ذكر قبلا وبما سيذكر بعد، ودائما هم متفرقون إلى ثلاث فرق منذ التحاقهم بموسى إلى اليوم فرّقهم الله وشتت كلمتهم، قال تعالى «وَبَلَوْناهُمْ» امتحناهم واختبرناهم «بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ» لأن النعمة إذا شكرت ترغب بالطاعة فتدعوا إلى الإيمان والشدة يخاف عاقبتها فتدعو إلى الإيمان أيضا، أي إنا بلوناهم بكلا الأمرين «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ١٦٨» عن غيهم فلم ينجع بهم «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» الخلف القسري الذي يجيء بعد قرن كان قبله، أي حدث من بعدهم حدث سوء تبدل عما كان عليه، وهو بسكون اللام وإذا فتحت قيل خلف خير خلف صدق أما ما جاء في قول زهير:

لنا القوم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وما جاء في قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فاسكان اللام بالأول وهو في معرض المدح وفتحها في الثاني وهو في معرض الذم فلضرورة الشعر. وقال البصريون يجوز تحريك اللام وسكونها في الرديء وفي الجيد التحريك فقط، وهؤلاء هم الفرقة الثالثة الكافرة المشار إليها في الآية ١٦٥ المارة لأنها لم تذكر فيها، قال تعالى في ذمّهم إنهم «وَرِثُوا الْكِتابَ» التوراة بانتقالها لهم من آبائهم فلم يعملوا بها وصاروا «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا» الشيء «الْأَدْنى» من حطام الدنيا الذميمة كالرشوة القبيحة، وقد تنزه القرآن عن التصريح بها لخساستها ودناءة آخذيها، راجع الآية ١٢٨ من البقرة في ج ٣ كي يبدلوا أحكام التوراة التي آلت إليهم بطريق الإرث ويحرفونها ويغيرون ما فيها لقاء عرض تافه حقير، والعرض بفتح الراء يطلق على جميع متاع الدنيا، فيقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، وأما بسكونه فكل ما يطلق عليه لفظ مال غير النقدي «وَيَقُولُونَ» مع عملهم هذا «سَيُغْفَرُ لَنا» ما نفعله، يتمنون ويطمعون

صفحة رقم 448
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية