[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٤ الى ١٧٠]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْ صُلَحَائِهِمُ الَّذِينَ جَرَّبُوا الْوَعْظَ فِيهِمْ فَلَمْ يَرَوْهُ يُجْدِي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً فَيَكُونُ ثَلَاثَ فِرَقٍ اعْتَدَوْا وَفِرْقَةٌ وَعَظَتْ وَنَهَتْ وَفِرْقَةٌ اعْتَزَلَتْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْتَدِ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ غَيْرُ الْقَائِلَةِ لِلْوَاعِظَةِ لِمَ تَعِظُونَ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَصَتْ وَفِرْقَةٌ نَهَتْ وَوَعَظَتْ وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعَاصِيَةِ قَالَتْ لِلْوَاعِظَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً قَدْ عَلِمْتُمْ أَنْتُمْ أَنَّ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَيُؤَيِّدُهُ الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَهَذِهِ الْمُخَاطَبَةُ تَقْتَضِي مُخَاطَبًا انْتَهَى وَيَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعَاصِيَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لَقَالَتِ الْوَاعِظَةُ مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ. أَوْ بِالْخِطَابِ مَعْذِرَةً إِلَى ربكم ولعلكم يتقون وَمَعْنَى مُهْلِكُهُمْ مُخْتَرِمُهُمْ وَمُطَهِّرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا لِتَمَادِيهِمْ فِي الْعِصْيَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْتَمَلُ صفحة رقم 207
أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ فَالْقَائِلَةُ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ الْوَعْظَ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا فِرْقَتَيْنِ عَاصِيَةً وَطَائِعَةً وَأَنَّ الطَّائِعَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْعَاصِيَةَ لَا يُجْدِي فِيهَا الْوَعْظُ وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا:
لِمَ تَعِظُونَ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَعْذِرَةً بِالرَّفْعِ أَيْ مَوْعِظَتُنَا إِقَامَةُ عُذْرٍ إِلَى اللَّهِ وَلِئَلَّا نُنْسَبَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَى بَعْضِ التَّفْرِيطِ وَلِطَمَعِنَا فِي أَنْ يَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَاصِمٌ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ مَعْذِرَةً بِالنَّصْبِ أَيْ وَعَظْنَاهُمْ مَعْذِرَةً، قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ كَذَا لَنَصَبَ انْتَهَى، وَيَخْتَارُ هَنَا سِيبَوَيْهِ الرَّفْعَ قَالَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا اعْتِذَارًا مُسْتَأْنَفًا وَلَكِنَّهُمْ قِيلَ: لَهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَالُوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ، وقال أبو البقاء: من نَصَبَ فَعَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ وَعْظُنَا لِلْمَعْذِرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ أَيْ نَعْتَذِرُ مَعْذِرَةً وَقَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ الضَّمِيرُ فِي نَسُوا لِلْمَنْهِيِّينَ أَيْ تَرَكُوا مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الصَّالِحُونَ وَجَعَلَ التَّرْكَ نِسْيَانًا مُبَالَغَةً إِذْ أَقْوَى أَحْوَالِ التَّرْكِ أَنْ يُنْسَى الْمَتْرُوكُ وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي.
قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يراد بِهِ الذِّكْرُ نَفْسُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا كَانَ فِي الذِّكْرِ انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرُ لِي هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ وَالسُّوءُ عَامٌّ فِي الْمَعَاصِي وَبِحَسَبَ الْقَصَصِ يَخْتَصُّ هُنَا بِصَيْدِ الْحُوتِ والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْعَاصُونَ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي أَخْذِهِمْ وَهِيَ الظُّلْمُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: بَئِيسٍ شَدِيدٌ مُوجِعٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُهْلِكٌ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَغَيْرُهُمَا بِيسٍ عَلَى وَزْنِ جَيِّدٍ، وَابْنُ عَامِرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ هَمَزَ كَبِئْرٍ وَوُجِّهَتَا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ سُمِّيَ بِهِ كَمَا
جَاءَ «أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ»
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وُضِعَ وَصْفًا عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ كَحِلْفٍ فَلَا يَكُونُ أَصْلُهُ فِعْلًا، وَخَرَّجَهُ الْكِسَائِيُّ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ بَيْئِسٌ فَخُفِّفَ الهمزة فالتفت يَاءَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَكُسِرَ أَوَّلُهُ كَمَا يُقَالُ رَغِيفٌ وَشَهِيدٌ، وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ فَكُسِرَ أَوَّلُهُ إِتْبَاعًا ثُمَّ حُذِفَتِ الْكَسْرَةُ كَمَا قَالُوا فَخِذٌ ثُمَّ خَفَّفُوا الْهَمْزَةَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بَئِيسٍ بِهَمْزٍ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ عَنْ نَافِعٍ كَمَا تَقُولُ بِيسَ الرَّجُلُ، وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: لَا وَجْهَ لَهَا قَالَ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ بِيسَ حَتَّى يُقَالَ بِيسَ الرَّجُلُ أَوْ بِيسَ رَجُلًا، قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا مَرْدُودٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَاتِمٍ حَكَى النَّحْوِيُّونَ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ يُرِيدُونَ وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ وَالتَّقْدِيرُ بِيسَ العذاب، وقرىء بَئِسَ عَلَى وَزْنِ شَهِدَ حَكَاهَا يَعْقُوبُ الْقَارِئُ وَعَزَاهَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ إِلَى عيسى بن
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَعْلَمَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَبْعَثَنَّ لَيُرْسِلَنَّ وَلَيُسَلِّطَنَّ لِقَوْلِهِ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا «١» وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ قَالَهُ الْجُمْهُورُ أَوْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّصَارَى قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: نَسْلُ الْمَمْسُوخِينَ وَالَّذِينَ بَقُوا مِنْهُمْ وَقِيلَ:
يَهُودُ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَعَلَى هَذَا تَرَتَّبَ الْخِلَافُ فِي مَنْ يَسُومُهُمْ، فَقِيلَ: بُخْتُنَصَّرَ وَمَنْ أَذَلَّهُمْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ الْمَجُوسُ كَانَتِ الْيَهُودُ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَزَالُ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: الْعَرَبُ كَانُوا يَجْبُونَ الْخَرَاجَ مِنَ الْيَهُودِ قاله ابن جبير، و. قال السُّدِّيُّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَبْعُوثُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأمته وَلَمْ يَجْبِ الْخَرَاجَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا مُوسَى جَبَاهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أَمْسَكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وسُوءَ الْعَذابِ الْجِزْيَةُ أَوِ الْجِزْيَةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَكِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ وَالْإِبْعَادُ عَنِ الْوَطَنِ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا دَوْلَةَ لِلْيَهُودِ وَلَا عِزَّ وَأَنَّ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ فِيهِمْ لَا يُفَارِقُهُمْ وَلَمَّا كَانَ خَبَرًا فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَاهَدْنَا الْأَمْرَ كَذَلِكَ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَغِيبٍ صِدْقًا فَكَانَ مُعْجِزًا وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ أَنَّهُمْ هُمُ الْيَهُودُ فَتَسْمِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ إِذْ هُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَانُوا بِإِلَهِيَّةِ الدَّجَّالِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ إِنْ صَحَّ وَالْآيَةِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَلَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الرُّومِ أَمْلَقَتْ فِي صُقْعِهَا فَبَاعَتِ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرَةَ لَهُمْ وَتَمَلَّكُوهُمْ.
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ. إِخْبَارٌ يَتَضَمَّنُ سُرْعَةَ إِيقَاعِ الْعَذَابِ بِهِمْ.
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. تَرْجِيَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَوَعْدٌ لِمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ.
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ. أَيْ فِرَقًا مُتَبَايِنِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَقَلَّ أَرْضٌ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِيهَا شِرْذِمَةٌ وَهَذَا حَالُهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَحْتَ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْأَرْضِ مُسْلِمِينَ أَمْ كُفَّارًا وأُمَماً حَالٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ هَذَا فِي قَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ والصَّالِحُونَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْ مَنْ آمَنَ بِالْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ مُنْحَطُّونَ عَنِ الصَّالِحِينَ وَهُمُ الْكَفَرَةُ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الصلاح أي ومنهم قوم دُونَ أَهْلِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَدِلُ التَّقْسِيمُ إِلَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِهِ أُولَئِكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَمِنْهُمْ قَوْمٌ
دُونَ أُولَئِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْمُفْرَدَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَيَكُونُ ذلِكَ بِمَعْنَى أُولَئِكَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ وَيَعْتَدِلُ التَّقْسِيمُ وَالصَّالِحُونَ ودُونَ ذلِكَ أَلْفَاظٌ مُحْتَمِلَةٌ فَإِنْ أُرِيدَ بِالصَّلَاحِ الْإِيمَانُ فَدُونَ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَإِنْ أُرِيدَ بِالصَّلَاحِ الْعِبَادَةُ وَالْخَيْرُ وَتَوَابِعُ الْإِيمَانِ كَانَ دُونَ ذلِكَ فِي مُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْلُغُوا رُتْبَةَ الصَّلَاحِ الَّذِي لِأُولَئِكَ، وَالظَّاهِرُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَبَلَوْناهُمْ أَنَّهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ هُمْ دُونَ أُولَئِكَ وَهُوَ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَخَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ وَدُونَ ذَلِكَ ظرف أصله للمكان قم يُسْتَعْمَلُ لِلِانْحِطَاطِ فِي الْمَرْتَبَةِ، وقال ابن عطية: فإن أُرِيدَ بِالصَّلَاحِ الْإِيمَانُ فَدُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى غَيْرٍ يُرَادُ بِهَا الْكَفَرَةُ انْتَهَى، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ دُونَ تُرَادِفُ غَيْرًا فَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّنْ كَانَ دُونَ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرًا فَصَحِيحٌ ودُونَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ نَعْتٍ لِمَنْعُوتٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ فِي التَّفْصِيلِ بِمِنْ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ صِفَتِهِ مَقَامَهُ نَحْوَ هَذَا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ.
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ. أَيْ بِالصِّحَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ والسَّيِّئاتِ مُقَابِلَاتُهَا. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الطَّاعَةِ وَيَتُوبُونَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا. أَيْ حَدَثَ من بعد المذكورين فَخَلَفَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلْقَرْنِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ الْقَرْنِ خَلْفٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَلْفُ الْقَرْنُ وَالْخَلْفُ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ خَلْفُ صِدْقٍ لِلصَّالِحِ وَخَلْفُ سُوءٍ لِلطَّالِحِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ | وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ |
الْخَلْفُ يُذْهَبُ بِهِ إِلَى الذَّمِّ وَالْخَلَفُ خَلَفٌ صَالِحٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
خَلَّفْتَ خَلْفًا وَلَمْ تَدَعْ خَلَفًا | كُنْتَ بِهِمْ كَانَ لَا بِكَ التَّلَفَا |
أَلَا ذَلِكَ الْخَلَفُ الْأَعْوَرُ وَفِي الصَّالِحِ خَلْفٌ وَعَلَى هَذَا بَيْتُ حَسَّانَ:
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى عَلَيْهِمْ وَخَلْفُنَا | لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ الله تابع |