
وكذلك أوصى إبراهيم، بنيه؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وهكذا الواجب على كل مسلم ومؤمن أن يتضرع إلى الله في كل وقت، ويبتهل إليه في كل ساعة؛ لئلا يسلب الإيمان لكسب يكتسبه؛ إذ الأنبياء والرسل - عليهم السلام - مع عصمتهم كانوا يخافون ذلك ليعلم أن العصمة لا تسقط الخوف، ولا تؤمن عن الزلات.
وقوله: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) دلالة على أنهم علموا أنهم إذا أفرغ عليهم الصبر صبروا؛ إذ لو لم يعلموا ذلك لم يكن لسؤالهم الصبر معنى، فهذا على المعتزلة في قولهم: إنه يفرغ ولا يصبرون، وإنه قد أعطاهم غاية ما يصلح في الدِّين، فدل سؤالهم ذلك على أنه لم يعطهم، وأن عنده مزيدًا لو أعطى لهم ذلك كان.
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ... (١٢٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ: في إخراجكم من أرض مصر وإفسادهم العيش عليكم، أو ما ذكروا

من ترك عبادة فرعون وخدمته.
(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقد قرئ: [(وَإِلِاهَتِكَ)] فمن قرأه: [(وَإِلِاهَتِكَ)] حمله على العبادة، أي: يذرك وعبادتك، ومن قرأه [(وَآلِهَتَكَ)]، وهو قول ابن عَبَّاسٍ ومجاهد، قالوا: إن

فرعون لعنه اللَّه، قد كان جعل لقومه آلهة يعبدونها؛ ليتقربوا بعبادتهم تلك الأصنام إلى فرعون، على ما كان يعبد أهل الشرك الأصنام دون اللَّه، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فقالوا: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) التي جعلت لهم.
وقال آخرون: إن فرعون كان يعبد الأصنام والأوثان على ما عبد غيره.
وقال غيرهم: لا يحتمل أن يكون هو عبد الأصنام، ولكن جعل لقومه الأصنام على ما ذكرنا.
ألا ترى أنه قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) ثم قال اللعين: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ) يعني: رجالهم، (وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)؛ لأنه لا يحتمل قتل الأبناء، ولم يكن منهم إليه صنع إنما كان ذلك من الرجال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قد كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له: إنه يولد مولود يذهب بملكك، ويغير دين أهل الأرض، فلم يزل يقتلهم في ذلك العام الذي قيل له: إنه يولد مولود يذهب بملكه، ويترك البنات، فذلك قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) قيل: مسلطون عليهم.
فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في ذكر هذه القصص والأنباء السالفة في القرآن؟
قيل: لوجوه - واللَّه أعلم -:
أحدها: أن فيها دليل إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأن هذه القصص والأنباء كانت في كتبهم ثابتة مبينة، وقد علموا أن لسانه كان على غير ما كانت كتبهم، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك؛ ليتعلم منه، ولا سمع عن أحد منهم ثم أنبأهم على ما كانت، دل أنه إنما عرف ذلك بمن يعلم علم الغيب.