
مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَإِذَا حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا «١».
وَقَالَ السُّدِّيُّ كَانُوا بِضْعَةً وثلاثين ألف رجل وليس رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَمَعَهُ حَبْلٌ وَعَصًا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يَقُولُ فَرَّقُوهُمْ أَيْ مِنَ الْفَرَقِ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ هِشَامٌ الدَّسْتُوائِيُّ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ قَالَ جَمَعَ فِرْعَوْنُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَاحِرٍ فَأَلْقَوْا سَبْعِينَ أَلْفَ حَبْلٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ عَصَا حَتَّى جَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ولهذا قال تعالى: وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٧ الى ١٢٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ وَهِيَ عَصَاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أَيْ تَأْكُلُ مَا يَأْفِكُونَ أَيْ مَا يُلْقُونَهُ وَيُوهِمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ بَاطِلٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَجَعَلَتْ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ حِبَالِهِمْ وَلَا مِنْ خُشُبِهِمْ إِلَّا الْتَقَمَتْهُ فَعَرَفَتِ السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هَذَا بِسِحْرٍ فَخَرُّوا سُجَّدًا وَقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ «٣».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق جعلت تتبع تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً حَتَّى مَا يُرَى بِالْوَادِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِمَّا أَلْقَوْا ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى فَإِذَا هِيَ عَصًا فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ وَوَقَعَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ لَوْ كَانَ هَذَا سَاحِرًا مَا غُلِبْنَا. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مبين فَاغِرٌ فَاهُ يَبْتَلِعُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةَ عند ذلك سجدا فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَوَعَّدَ بِهِ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ السَّحَرَةَ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أظهره
(٢) تفسير الطبري ٦/ ٢٢.
(٣) انظر تفسير الطبري ٦/ ٢٤.

لِلنَّاسِ مِنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي إن غلبته لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّمَا كَانَ عَنْ تَشَاوُرٍ مِنْكُمْ وَرِضَا مِنْكُمْ لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: ٢٣٨] وَهُوَ يَعْلَمُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ لُبٌّ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُجَرَّدِ مَا جَاءَ مِنْ مَدْيَنَ دَعَا فِرْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ وَالْحُجَجَ الْقَاطِعَةَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي مَدَائِنِ مُلْكِهِ وَمُعَامَلَةِ سَلْطَنَتِهِ فَجَمَعَ سَحَرَةً مُتَفَرِّقِينَ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ بِبِلَادِ مِصْرَ مِمَّنِ اخْتَارَ هُوَ وَالْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ وَوَعَدَهُمْ بالعطاء الجزيل ولهذا قد كَانُوا مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الظُّهُورِ فِي مَقَامِهِمْ ذَلِكَ وَالتَّقَدُّمِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ.
وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا رَآهُ وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ وَفِرْعَوْنُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا تَسَتُّرًا وَتَدْلِيسًا عَلَى رَعَاعِ دَوْلَتِهِ وَجَهَلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ [الزُّخْرُفِ: ٥٤] فَإِنَّ قَوْمًا صَدَّقُوهُ فِي قَوْلِهِ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: ٢٤] مِنْ أَجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَضَلِّهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ الْمَشْهُورِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ قال: الْتَقَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمِيرُ السَّحَرَةِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَرَأَيْتَكَ إِنْ غَلَبْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي وَتَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ حَقٌّ. قَالَ السَّاحِرُ لَآتِيَنَّ غَدًا بِسِحْرٍ لَا يَغْلِبُهُ سِحْرٌ فو الله لئن غلبتني لأومنن بِكَ وَلَأَشْهَدَنَّ أَنَّكَ حَقٌّ وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا قَالُوا فَلِهَذَا قَالَ مَا قَالَ «١».
وَقَوْلُهُ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أَيْ تَجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَهُوَ وَتَكُونَ لَكُمْ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ وَتُخْرِجُوا مِنْهَا الْأَكَابِرَ وَالرُّؤَسَاءَ وَتَكُونَ الدَّوْلَةُ وَالتَّصَرُّفُ لَكُمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ مَا أَصْنَعُ بِكُمْ ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يَعْنِي يَقْطَعُ يَدَ الرَّجُلِ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى أَوْ بالعكس ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: ٧١] أَيْ عَلَى الْجُذُوعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَبَ وَأَوَّلَ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ فِرْعَوْنُ وَقَوْلُ السَّحَرَةِ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أَيْ قَدْ تَحَقَّقْنَا أَنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَعَذَابَهُ أَشَدُّ من عذابك ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم وَمَا أَكْرَهَتْنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَعْظَمُ مِنْ نكالك فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص عن عذاب الله ولهذا قَالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أَيْ عُمَّنَا بِالصَّبْرِ عَلَى دِينِكَ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أَيْ مُتَابِعِينَ لِنَبِيِّكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى