
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَقَدْ جَاءَ وَقْتُهَا، فَأَلْقَاهَا كَمَا أُمِرَ، فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْإِفْكِ، ذَكَرَ هُنَا وَفِي سُورَةِ طَهَ أَمْرَهُ لِمُوسَى بِالْإِلْقَاءِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ فَعَلَ الْإِلْقَاءَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَمْرَ فَحَذَفَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ فِي السُّوَرِ وَالْإِيجَازِ الْمُؤَدِّي لِلْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، قَرَأَ حَفْصٌ " تَلْقَفُ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الثُّلَاثِي، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَصْلُهُ " تَتَلَقَّفُ "، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى لَقْفِ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ.
مَا مَعْنَى لَقِفَ الْعَصَا لِلْإِفْكِ؟ الْإِفْكُ - بِالْكَسْرِ -: اسْمٌ لِمَا يُؤْفَكُ؛ أَيْ: يُصْرَفُ وَيُحَوَّلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّلْبِيسِ وَالشَّرِّ وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَبِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ أَفَكَ بِالْفَتْحِ " كَجَلَسَ وَضَرَبَ " وَيُقَالُ: أَفِكَ بِالْكَسْرِ " كَتَعِبَ " قَالَ فِي الْأَسَاسِ: أَفِكَهُ عَنْ رَأْيِهِ: صَرَفَهُ، وَفُلَانٌ مَأْفُوكٌ عَنِ الْخَيْرِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِفْكُ كُلُّ مَصْرُوفٍ عَنْ وَجْهِهِ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرِّيَاحِ الْعَادِلَةِ عَنِ الْمَهَابِّ: مُؤْتَفِكَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٦٩: ٩) وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣: ٥٣) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٩: ٣٠) أَيْ: يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الصِّدْقِ فِي
الْمَقَالِ إِلَى الْكَذِبِ، وَعَنِ الْجَمِيلِ فِي الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٥١: ٩)، أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَقَوْلُهُ: أَجِئْتَنَا لَتَأَفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا (٤٦: ٢٢) فَاسْتَعْمَلُوا الْإِفْكَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ صَرْفٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ - فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ لَمَّا قُلْنَا اهـ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ اسْتِعْمَالِ الْمَادَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ

الْإِفْكَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ الْكَذِبُ، وَمَا يُؤَدِّي الْمُرَادُ مِنَ الْكَذِبِ كَالْإِبْهَامِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّجَوُّزَاتِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْمَعَارِيضِ الَّتِي تُوهِمُ السَّامِعَ أَوِ الْقَارِئَ لَهَا مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَعَمَلِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ.
وَأَمَّا لَقْفُ الشَّيْءِ وَتَلَقُّفُهُ - بِالتَّشْدِيدِ - فَهُوَ تَنَاوُلُهُ بِحِذْقٍ وَسُرْعَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةَ | فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ |
السَّحَرَةُ لَيْسَتْ إِلَّا حِبَالًا وَعِصِيًّا لَا تَسْعَى وَلَا تَتَحَرَّكُ، وَأَنَّ عَصَا مُوسَى لَمْ تَزَلْ حَيَّةً تَسْعَى - هُوَ الَّذِي مَازَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعُرِفَتْ بِهِ الْآيَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحِيلَةُ الصِّنَاعِيَّةُ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّ عَصَا مُوسَى أَزَالَتْ هَذَا التَّخَيُّلَ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّقْفِ، وَلَكِنْ لَا نَعْلَمُ بِمَاذَا كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ إِلَهِيَّةٌ حَقِيقَةٌ لَا أَمْرٌ صِنَاعِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَ صِفَتَهُ وَحَقِيقَتَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهُ فِي ابْتِلَاعِ الْعَصَا لِلْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ إِذَا فُسِّرَتْ أَلْفَاظُهُ بِمَعَانِيهَا الْحَقِيقَةِ، فَالَّذِي بَطَلَ كَانَ عَمَلًا عَمِلُوهُ، وَكَيْدًا صفحة رقم 60