
فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم نقتدي بهم وليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل فلما لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء لم ينتفعوا بذلك الإمهال أخذهم الله بغتة أينما كانوا قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بعد ذلك بَغْتَةً أي فجأة بالعذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) أي وقت نزول العذاب ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الذين أهلكناهم آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْا ما نهى الله عنه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات والثمار والمواشي وحصول الأمن والسلامة. وقرأ ابن عامر «لفتحنا» بتشديد التاء للتكثير وَلكِنْ كَذَّبُوا ذلك ولم يتقوا ما حرمه الله فَأَخَذْناهُمْ بالجدوبة والعذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) من الكفر والمعاصي أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي أبعد ذلك أمن أهل القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أي غافلون عن ذلك أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أي يشتغلون بما ينفعهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي عذاب الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) وهم الذين لا يعرفون ربهم لغفلتهم فلا يخافونه. وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ
يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
قرأ الجمهور «يهد» بالياء من تحت، أي أولم يتبين للذين يرثون أرض مكة من المتقدمين بسكونها من بعد هلاك أهلها تعذيبنا إياهم بسبب ذنوبهم لو شئنا ذلك كما عذبنا من قبلهم، وفاعل «يهد» مصدر مؤول من «أن» وما في حيزها أن نزل «يهد» منزلة اللازم وإلا فمفعوله له محذوف والتقدير أولم يوضح للوارثين أرض مكة من بعد هلاك أهلها عاقبة أمرهم أن الشأن لو نشاء الإصابة أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) أي لا يقبلون موعظة من أخبار الأمم المهلكة. والمراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه وإنما يحصل الطبع حال استمراره على الكفر فهو يكفر أولا ثم يصير مطبوعا عليه في الكفر، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله: و «نطبع» على «أصبناهم»
تِلْكَ الْقُرى وهي قرى قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكرم الرسل مِنْ أَنْبائِها كيف أهلكت وإنما خصّ الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياؤهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما

كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ
أي فبعد رؤية المعجزات ما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات. والمعنى كانت كل أمة من أولئك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدا وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أي وما وجدنا أكثر الناس على إيمان كما قاله ابن مسعود أو على عهد أول وهو الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال: ألست بربكم؟
قالوا: بلى، فلما أقروا بربوبية الله تعالى في عالم الذر ثم خالفوا ذلك في هذا العالم صار كأنه ما كان لهم عهد وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) أي وإن الشأن.
والحديث: «وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين»
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد انقضاء الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية مُوسى بِآياتِنا التسع الدالة على صدقه إِلى فِرْعَوْنَ واسمه قابوس.
وقيل: اسمه الوليد بن مصعب بن ريان، وكان ملكه أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة ولم ير في تلك المدة مكروها قط من وجع، أو حمى، أو جوع، ولو حصل له ذلك لما ادعى الربوبية وَمَلَائِهِ أي عظماء قومه فَظَلَمُوا بِها أي بتلك الآيات أي وضعوا الإنكار في موضع الإقرار ووضعوا الكفر في موضع الإيمان وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة فَانْظُرْ أيها المخاطب بعين عقلك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وكيف فعلنا بهم وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ إليك وإلى قومك مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.
وقرأ نافع «على» بتشديد الياء، ف «حقيق» فحقيق مبتدأ وخبره ما دخلت عليه «أن»، أي واجب على ترك القول على الله إلا بالحق. والباقون بمد اللام، والمعنى أنا ثابت بأن لا أقول على الله إلا الصدق. وقرأ أبي «بأن لا أقول بالباء». وقرأ عبد الله والأعمش «أن لا أقول» بدون حرف جر قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ أي معجزة شاهدة على رسالتي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) أي فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم مع أموالهم فكان فرعون عاملهم معاملة العبيد في الاستخدام. قالَ أي فرعون إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها أي إن كنت جئت بآية من عند من أرسلك فأحضرها عندي ليثبت صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) في دعواك أنك رسول فَأَلْقى موسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية ضخمة صفراء ذكر مُبِينٌ (١٠٧) أي ظاهر لا يشك في كونه ثعبانا.