آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ

وقوله تعالى: وَما كُنَّا غائِبِينَ يدل على وجود المراقبة والمشاهدة الإلهية لأعمال الخلائق.
والخلاصة: هذه الآية تثبت وجود السؤال والحساب لكل العباد يوم القيامة.
وأرشدت الآية الثانية إلى وزن أعمال العباد بالميزان، وهو الحق لخبر جابر المتقدم، وقيل: وزن صحائف أعمال العباد، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح.
والمراد من الميزان في قول مجاهد والضحاك والأعمش: العدل والقضاء، والمراد به في رأي الجمهور: الميزان الحقيقي لإظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله في حسابهم وجزائهم عليها، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من الناجين، ومن رجحت سيئاته على حسناته، فهو من الهالكين المعذبين. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفّتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فيخف وزنه حتى يقع في النار.
كثرة نعم الله على عباده
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
الإعراب:
مَعايِشَ مفعول جَعَلْنا وهي جمع معيشة، وأصلها معيشة على وزن مفعلة، إلا أنه نقلت كسرة الياء إلى العين، ولا يجوز همزها لأن الياء فيها أصلية، وأصلها في الواحد أن تكون متحركة. فإن كانت زائدة أصلها في الواحد السكون، نحو كتيبة على فعلية، همزت في الجمع، فيقال: كتائب، ونحو مدائن وصحائف وبصائر. وقد قرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج «معائش» بالهمز على تشبيه الأصلية بالزائدة، وهي قراءة ضعيفة قياسا.

صفحة رقم 148

المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ يا بني آدم، أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها مَعايِشَ جمع معيشة، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب وغيرها قَلِيلًا ما ما لتأكيد القلة تَشْكُرُونَ تلك النعم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم، ثم خوفهم بعذاب الدنيا: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وبعذاب الآخرة من وجهين: السؤال والحساب: فَلَنَسْئَلَنَّ.. ووزن الأعمال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ رغبهم في هذه الآية بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام عن طريق التذكير بكثرة نعم الله عليهم، وكثرة النعم توجب الطاعة.
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ ليظهر امتنانه على عبيده بكثرة إنعامه عليهم، بأن جعل الأرض لهم مكانا وقرارا، وسلطهم أو أقدرهم على التصرف فيها، وأباح لهم منافعها، وسخر لهم السحاب والمطر لإخراج أرزاقهم منها، وجعل فيها رواسي وأنهارا.
وجعل لهم فيها معايش من وجهين: إما بخلق الله تعالى ابتداء كخلق الثمار وغيرها، أو بطريق العمل والاكتساب واتخاذ الأسباب والاتجار فيها، وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى، وكثرة النعم لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد.
ولكن أكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم ١٤/ ٣٤] وقال:

صفحة رقم 149

وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ ٣٤/ ١٣].
وشكر النعمة: يكون بمعرفة الله المنعم معرفة تامة، وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت من أجله، بأداء حقوق الله تعالى، واستعمال أعضاء الإنسان في مناحي الخير ورضوان الله وصرفها عن وجوه الشر والمعاصي، وبالشكر بهذا المعنى تدوم النعم ويسعد الإنسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
التذكير بنعم الله تعالى موجب للطاعة والانقياد عند أهل الإيمان، لذا قلّ الشاكرون، وكثر الجاحدون.
ومن أجلّ النعم تمكين الإنسان من الاستقرار في الأرض والتصرف بما فيها من خيرات، والانتفاع بمنافعها الكثيرة، وقد أثبتت رحلات الطيران والفضاء، وصعود الإنسان إلى القمر وبعض الكواكب الأخرى في العصر العلمي الحديث مدى تعلق الإنسان بالأرض وحبّه لها وحنينه إليها عند بعده عنها.
ومن هذه النعم: تهيئة أسباب المعيشة في الأرض وتوفير ما يعاش به من ألوان المطاعم والمشارب وغيرها كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة ٢/ ٢٩].
وهذا يدل على أنه لم تخلق هذه النعم إلا لخير الإنسان، والحفاظ على الحياة البشرية، فردا أو جماعة، فأحرى بنا أن تكون هذه الحياة الجسدية أو المادية سببا أو عونا على تزكية الحياة الروحية وتطهير النفس، وإعدادها للحياة الأخروية الأبدية.
فما أسعد أهل الإيمان والطاعة بالتزام الأوامر الإلهية، واجتناب المعاصي والموبقات لأنه بالإيمان تطمئن النفس وبالطاعة تحفظ الأعضاء والطاقة الجسدية، والكرامة الإنسانية.

صفحة رقم 150
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية