آيات من القرآن الكريم

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ
ﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯ ﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

سورة الحاقّة
مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: خرجت أتعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن هذا والله شاعر فقال وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: ٤١] قلت كاهن فقال لا وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ [الحاقة: ٤٢، ٤٣] إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ أي الساعة أو الحاقة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق

صفحة رقم 45

وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وغيره وإسناد الفعل لها على الوجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولي العلم وفي الكشف كون الإسناد مجازيا إنما هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى. وبحث فيه الجلبي بما فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الْحَاقَّةُ القيامة من حاققته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها على جميع ذلك وصف حذف موصوفة للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانه مجرى الاسم. وقيل إنها على ما روي عن ابن عباس من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيّا ما كان فهي مبتدأ خبرها جملة مَا الْحَاقَّةُ على أن مبتدأ والْحَاقَّةُ خبر أو بالعكس ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه والأصل ما هي أي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا لأمرها. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الاستفهام كني به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الابتداء وإدراك خبره ولا مساغ هاهنا للعكس ومَا الْحَاقَّةُ جملة محلها النصب على إسقاط الخافض لا إن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى وَلا أَدْراكُمْ بِهِ [يونس: ١٦] فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني، وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم والجملة أعني ما أدراك إلخ معطوفة على ما قبلها من الجملة الصغرى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ بالقيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعها موضع ضمير الْحَاقَّةُ للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء بشيء فيها تشديدا لهولها. والجملة استئناف مسوق لبيان بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة والسلام أثر تقريراته ما أدراه صلّى الله عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من يكذب بها كأنه قيل وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كذبت بها ثمود وعاد فأهلكوا فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا أي أهلكهم الله تعالى. وقرأ زيد بن علي «فهلكوا» بالبناء للفاعل بِالطَّاغِيَةِ أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله تعالى في [هود: ٦٧] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة أو الرجفة لقوله سبحانه في [الأعراف: ٧٨، ٩١] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وهي الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروي عن قتادة قال: أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال ابن عباس وأبو عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد بقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: ١١] والمعول عليه الأول لمكان قوله تعالى وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق، فلو قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح على أنه سبب آلي لم يكن طباق إذ جاز أن يكون

صفحة رقم 46

هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها
وبين بِرِيحٍ لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من التأييد لا يخفى حاله. وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر فتذكر وهو صفة ريح وكذا قوله تعالى عاتِيَةٍ أي شديدة العصف أو عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون، ومنه يعلم الفرق بين الوجهين
وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لم تنزل قطرة إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: ١١] ولم ينزل شيء من الريح إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ عتت على الخزان.
وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير مأثور. وقد حكي ذلك في الكشاف ثم قال: ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها، وخرج ذلك في الكشف على الاستعارة التمثيلية ثم قال: إن المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة جاز أن يقال إنه كناية عنه كما فيما نحن فيه. وجوز أن يكون هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة وقوله تعالى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ إلخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الاقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز وجل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها. وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتلىء ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح. وقد عملوا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلطها عز وجل بقدرته عليهم سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها بوصفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الانحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود. والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤومات كما

صفحة رقم 47

قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول حُسُوماً محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد. وقال الراغب الحسم إزالة أثر الشيء يقال: قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحُسُوماً في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل. وجوز أن يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الاستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم.
وأيدت المصدرية بقراءة السدي «حسوما» بفتح الحاء على أنه حال من الريح أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، وإنما سميت أيام العجوز، لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها، أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومطفىء الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال إنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار فَتَرَى الْقَوْمَ أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي فِيها أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر صَرْعى أي هلكى جمع صريع كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أي أصول نخيل وقرأ أبو نهيك:
«أعجز» على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قرىء «نخيل» بالياء خاوِيَةٍ خلت أجوافها بلى وفسادا وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر فذلك قوله تعالى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الاسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث وقال ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان والنحويان وأبان «ومن قبله» بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في جهته وجانبه والمراد ومن عنده من أتباعه وأهل طاعته ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ومن معه وَالْمُؤْتَفِكاتُ أي قرى قوم لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من يتصف بالمجيء وقرى الحسن هنا «والمؤتفكة» على الإفراد بِالْخاطِئَةِ أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم على أن الإسناد مجازي وهو حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلّا إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها عما كانت تتعاطاه من القبائح، فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل وأريد منه التكثير لاقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع المقتضي لانقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة فَأَخَذَهُمْ أي الله عز وجل أَخْذَةً رابِيَةً أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا وذلك بسبب

صفحة رقم 48

إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحى إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة حَمَلْناكُمْ أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة فِي فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز وجل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه:
تسعون جارية في بطن جارية لِنَجْعَلَها
أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لَكُمْ تَذْكِرَةً
عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته وَتَعِيَها
أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك، والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به. وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى
وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: «إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي» قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى
. وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلّا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وان من هذا شأنه مع قتله بنسيب لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودي كما قال ابن جريج. بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه. وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه «وتعيها» بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ حمزة بإخفاء الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي «وتعيها» بإسكان الياء فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء وقرأ نافع «أذن» بإسكان الذال للتخفيف فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها. والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس. وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه: المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث إنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه واحِدَةٌ وعن ابن الحاجب أن نَفْخَةٌ لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة

صفحة رقم 49

على الوحدة اتفاقية غير مقصودة، وتعقب بأن هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل الوضع. وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم. وأيّا ما كان فإسناد الفعل إلى نَفْخَةٌ ليس من إسناد الفعل إلى المصدر المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه واحِدَةٌ وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه مصدرا فقد ذكر الجار بردي في شرح الشافية إن تأنيثه غير معتبر لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحِدَةٌ صفة مؤكدة وأطلق عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول. وقرأ أبو السمال «نفخة واحدة» بنصبهما على إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ رفعتا من أحيازهما بمجرد القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها رافعة لهما حاملة إياهما ليقال إنها ليس فيها حمل، وإنما هي اضطراب. وقيل: يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلّا أن في البين مانعا من الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع، وكذا يجوز أن يعتبر مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال والأرض ما يوجب التصادم.
ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا لا يكاد ينكر، وقيل يمكن أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة. ورفع الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى «وحملت» بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا للنقل فيكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد المذكورات فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان أثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: ١٤] وقيل تتفرق اجزاؤها كما قال سبحانه هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٦] وفرقوا بين الدك والدق بأن في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها. وقال بعض الأجلة: أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة المستوية وبعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناما هما واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمرادها هنا فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة وقوله تعالى فَدُكَّتا أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا يرجع إلى التسوية كما لا يخفى. وحكي في مجمع البيان أنهما إذا دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثني الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه فَيَوْمَئِذٍ أي فحينئذ على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو هاهنا متسع يقع فيه ما يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان كيت وكيت وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وتفسير الواقعة بصخرة بيت المقدس

صفحة رقم 50

واقع عن درجة القبول وَانْشَقَّتِ السَّماءُ تفطرت وتميز بعضها عن بعض. ولعله إشارة إلى ما تضمنه قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: ٢٥] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: ١٩] ولا منافاة بينهما وكذا لا منافاة بين كون الانشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل، والمراد بالسماء جنسها وقيل السماوات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة الانشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ذلك ما ليس بصلب أيضا فقد وصف البحر بالانفلاق فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة من وهى الشيء ضعف وتداعى للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز:

خل سبيل من وهى سقاؤه ومن هريق بالفلاة ماؤه
وَالْمَلَكُ أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان: الملك اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه فارجع إن أردت إليه عَلى أَرْجائِها أي جوانبها جمع رجى بالقصر وهو من ذوات الواو، ولذا برزت في التثنية قال الشاعر:
كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا ولا رجلا يرمي به الرجوان
والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال إنهما قالا وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي على ما لم ينشق منها، ولعل ذلك التجاء منهم للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عزّ وجلّ أو اجتماع هناك للنزول. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس قال وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي الملائكة على شقها ينظرون إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا الانشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهو يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا إليه. وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الأرجاء لحظة ثم يموتون. ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى في قوله سبحانه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل:
٨٧، الزمر: ٦٨]. وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٦٨] فكيف يقال إنهم يقفون على أرجاء السماء وفي أنوار التنزيل لعل قوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ إلخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة إثر ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي البحر عن ابن جبير والضحاك إن ضمير أَرْجائِها للأرض وإن بعد ذكرها قالا إنهم ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى بالاعتماد وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق الملائكة الذين على الأرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤوسهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ والمرجع وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن العباس بن عبد المطلب في حديث

صفحة رقم 51

وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ووركهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والمراد بالأوعال فيه ملائكة على صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن كل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية»
. وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلّا إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليه السلام من جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه.
وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك
وفي خبر عن وهب بن منبه ليس لهم كلام إلّا قولهم قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات
. وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله عزّ وجلّ. وأخرج هذا القول ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس
وقال الحسن: الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم ثمانية أشخاص وأيّا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة وإليه ذهب محيي الدين قدس سره قال: إن لله تعالى ملائكة يحملون العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية لأجل الحمل إلى أرض المحشر. وله قدس سره في الباب الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لا سيما على تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عزّ وجلّ بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عزّ وجلّ بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به.
وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالث فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله»
والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم نُفِخَ فِي الصُّورِ وجعل يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ بدلا من فَيَوْمَئِذٍ إلخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكر وغيره وقوله تعالى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ حال من مرفوع تُعْرَضُونَ أي تعرضون غير خاف عليه عزّ وجلّ سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: ٩] وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم «لا يخفى» بالياء التحتانية فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تفصيل لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في الدنيا. وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعدد صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة. وقيل ينسخ ما في

صفحة رقم 52

جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد كتاب وقيل إن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك فَيَقُولُ تبجحا وافتخارا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال الرضي (ها) اسم لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحد والاثنين والجمع مذكرا كان أو مؤنثا. الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك ها كما ها كم ها كن. الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف الكاف نحوها هاؤها هاؤم هاء هاؤما هاؤن. الرابعة أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هاء بهمزة ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع السابعة أن تصرفها تصريف خف. ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من قيل له هاء بالفتح الام إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة الأخيرة أفعال غير متصرفة لا ماضي لها ولا مضارع وليست بأسماء أفعال قال الجوهري: هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على ما لم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة نحو ما أخاف وما أخاف انتهى. وقال أبو القاسم: فيها لغات أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال: العرب تقول: هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها، وهاؤما يا رجلان أو امرأتان، وهاؤم يا رجال، وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر هاهنا بخذوا وهو متعد بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل عليه المذكور أعني كِتابِيَهْ وهو مفعول اقْرَؤُا واختير هذا دون العكس لأنه لو كان مفعول هاؤُمُ لقيل اقرؤوه إذ الأولى إضمار الضمير إذ أمكن كما هنا، وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا يتصل به الضمير. وقيل هاؤُمُ بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى. وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلّا إن كان قد عنى أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. وقيل: هاؤُمُ كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه صلّى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته. وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه أقرباؤه وأصحابه مثلا ليقرؤوا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله هاؤُمُ وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف والاستعمال إلى ما ذكر. وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور والهاء في كِتابِيَهْ وكذا في حِسابِيَهْ ومالِيَهْ [الحاقة: ٢٨] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: ٢٩] وكذا ما هِيَهْ في [القارعة: ١٠] للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان حركة الموقوف عليه، فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراءات مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا. قال الزمخشري اتباعا للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال: تقليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراءات بتفاصيلها منقولة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر ولم ينقل ذلك في ما هِيَهْ فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس بشيء فإن ذلك

صفحة رقم 53

متواتر فوجب قبوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي عملت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على أن الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب، فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك. وقيل لما كان
الاعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك، وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عزّ وجلّ ولعل ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن. وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر له الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به، وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي. وقيل: يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضي في أفعال القلوب وفيه نظر. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتامر، ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضي وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلّا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث. وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا. والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية. وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام قُطُوفُها جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه ولقوله تعالى دانِيَةٌ أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه. وقال بعضهم: يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال:
دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول كُلُوا وَاشْرَبُوا بإضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى هَنِيئاً صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني هَنِيئاً ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل. وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور بِما أَسْلَفْتُمْ بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية وهي أيام الدنيا. وقيل أي

صفحة رقم 54
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية