تفسير سورة القلم عدد ٢- ٦٨ وتسمى سورة نون
نزلت بمكة بعد سورة العلق عدا الآيات من ١٧ الى ٣٣ و ٤٨ الى ٥٠ فإنها نزلت بالمدينة، وهي اثنتان وخمسون آية وثلاثمائة كلمة، والف ومائتان وستة وخمسون حرفا.
ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدأت به. لا ناسخ ولا منسوخ فيها. ومثلها في عدد الآي (الحاقة) (وابراهيم) فقط.
بسم الله الرحمن الرحيم «ن» هو حرف من حروف الهجاء المعجمة والله أعلم بمراده فيه وقد ذكرنا ما يتعلق فيه في بحث الإرهاص في المطلب الثاني عشر المار وسنبحث في المراد منه على ما يتوصل إليه عقل البشر في سورة ق الآتية إذ لا يوجد في القرآن غير هاتين السورتين سورة بدئت بحرف معجم واسم للحوت الذي بلع سيدنا يونس عليه السلام ولهذا سمي ذا النون، ويأتي بمعنى الدواة قال الشاعر:
إذا ما الشوق برّح بي إليهم | الفت النون بالدمع السجام |
مطلب في القلم وما جرى به وأحاديث قيمة «وَالْقَلَمِ» الذي كتب الذكر في اللوح المحفوظ والله أعلم بصفته ولا داعي لبيانه. قيل أول ما خلق الله القلم فنظر اليه فانشق لهيبته نصفين ثم قال له اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك على اللوح. والناس يجرون على أمر قد فرغ منه.
وروي عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات (وفي رواية مسلم زيادة ينفعك الله بهن) : احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم ان الأمة لو اجتمعت صفحة رقم 75
على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف. وفي رواية: احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله بالرخاء يعرفك بالشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا. ولهذا البحث صلة في الآية ١٧ من سورة الأنعام ج ٢.
وفي الآية ٤١ من سورة الرعد ج ٣. فراجعها. وبعد أن ابتدأ جل ثناؤه في هذه السورة بهذا الحرف الذي هو رمز بينه وبين حبيبه أقسم فقال «وَالْقَلَمِ» الجاري بما كان وما يكون «وَما» وأقسم ايضا بالذي «يَسْطُرُونَ ١» أي تسطره، حفظته من أعمال الخلق ويدونونه بكتبهم، أو باللوح الذي سطرت عليه أعمالهم إذا كان الضمير عائدا إلى القلم وجمع الضمير تعظيما لشأنه وعبر عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم ولذا جعله فاعلا «ما أنت» يا أكمل الرسل «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي منّ بها عليك وهي النبوة والرسالة «بِمَجْنُونٍ ٢» بطائش كما يزعم جهلة قومك فاشكر هذه النعمة ولا تكدر جنانك بما يقولون وعاملهم بما أنت عليه، وهذه الجملة جواب القسم وفيها تنبيه على كذب قومه فيما رموه به من الجنّة لأنهم لا يعقلون ان من أكرمه الله بالنبوة لا يكون إلا كاملا في جميع الأوصاف فكيف يكون مجنونا «وَإِنَّ لَكَ» عندنا «لأجرا» عظيما لا يقدر البشر قدره «غَيْرَ مَمْنُونٍ ٣» به عليك والمنة لا تكدره كامل غير منقوص دائم غير مقطوع وقد زيدت اللام في (لأجرا) تأكيدا بتحققه كما زيدت الباء في (بمجنون) تأكيدا للنفي أي فاستمر على تحمل أذاهم وجفاهم واصبر على طعنهم وتحقيرهم واجر على الحق الذي أنت عليه ولا يمنعك ما يفترون به عليك من جراء تبليغ الرسالة لأنه كذب محض وافتراء ومنشؤه الحسد على ما منّ به عليك ربك دونهم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤» لا أعظم منه بدليل التنكير والوصف يسع جهلهم وغيرهم وهو خير ما أوتي الرجل، لأن حسن الخلق جامع لمحاسن الأفعال، قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: ما كان
أحد أحسن خلقا من رسول الله، ما دعاه أحد إلا قال لبيك فأنزل الله عليه هذه الآية وكان متحليا بأحمد الأخلاق وأرضى الأفعال وأكمل الآداب.
مطلب أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلم كيف لا وقد تأدب بتأديب الله عز وجل المبين بقوله الكريم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الآية ١٩٨ من الأعراف الآتية ولهذا فإنه كان متحليا بكثير من صفاته تعالى كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم والعلم وغيرها جاء في حديث مسلم وأبي داود والنسائي والإمام أحمد وغيرهم عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله قالت ألست تقرأ القرآن؟ قلت بلى. قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. وفي رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه صلّى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. قال العارف بالله المرصفي أرادت تخلقه بأخلاق الله لكنها لم تصرح تأدبا. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير. ورويا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ان رسول الله لم يكن فاحشا ولا متفحشا وكان يقول خياركم أحاسنكم أخلاقا. ورويا عن أنس قال: خدمت النبي صلّى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا زاد الترمذي وكان صلّى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا وما مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله، ولا شمت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولقد قالوا الإثم خراز القلوب لأن الإنسان إذا فعل شيئا غير مشروع لا بد وأن يتردد ذلك في صدره المرة بعد الأخرى حتى يعرف ماهيته، فاذا منّ الله عليه رجع عما فعل واستغفر الله، وإذا أراد أن يستدرجه والعياذ بالله سلط على قلبه الشيطان فحسنه له فطبع على قلبه. حفظنا
الله وأجارنا من ذلك. وروى البخاري عن أنس قال: ان كانت الأمة لنأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت أي ليقضي لها ما تريده في الحوائج، فاذا كان مع الأمة هكذا فكيف هو مع الغير؟ وفقنا الله لاتباعه وطبعنا بطباعه، كيف لا وقد قال تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية ١٩٥ من آل عمران في ج ٣. وفي رواية زيادة:
ويجيب إذا دعي. وعنه قال. كان رسول الله إذا استقبله الرجل فخافه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس. أخرجه الترمذي. وروى مسلم عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان رسول الله يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة (خدمة)، أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة. ورويا عن أنس قال كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة (جذبه جذبة) شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه وضحك وأمر له بعطاء ورويا عنه قال: كان صلّى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ووجها وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به (طائر صغير يشبه العصفور إلا أن منقاره أحمر) ورويا عن عائشة قالت ما خيّر رسول الله بين أمرين قط الا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فان كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه من شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله.
(أي لله) زاد مسلم: وما ضرب رسول الله شيئا بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله. وفي متن الشمائل للحافظ الترمذي... عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء...
. وروى جابر أن النبي ﷺ قال ان الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول: ان المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. أخرجه أبو داود. وعنها قالت قال ﷺ ان من أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله. أخرجه الترمذي. وعن أبي الدرداء أن رسول
الله قال ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيمة من خلق حسن، وان الله تعالى يبغض الفاحش البذيء. أخرجه الترمذي أيضا. وله عن جابر أن رسول الله قال ان من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم القيمة أحاسنكم أخلاقا. ولهذا كان ﷺ إذا أمر أمر بمعروف وإذا نهى نهى بمعروف راجع قوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) إلى آخر الآيات في سورة النحل في ج ٢. تجد ما يتعلق في هذا البحث وبه كفاية والا لو كتبت لآخر حياتي عن أخلاقه ما وفيت بها قال تعالى «فَسَتُبْصِرُ» يا محمد ظهورك ونصرتك عليهم «وَيُبْصِرُونَ ٥» أي يرى مكذبوك خذلانهم وإنزال العذاب بهم وإذ ذاك يعلمون «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ٦» المجنون الطائش هم أم أنت وهذا من الأخبار بالغيب الذي حققه الله له فيهم في واقعة بدر، وكانوا لوثوقهم بصدقه فيما بينهم إذا سمعوا منه شيئا يرسخ في قلوبهم ويخافون عاقبته فاذا أوعدهم أو وعدهم لا يزالون يرتقبون وقوعه ولكن عنادهم وحسدهم وتعاظمهم عليه حال دون طاعتهم له «إِنَّ رَبَّكَ» يا حبيبي «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» المستقيم الحق من كفار مكة واضرابهم الضالين «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ٧» من خلقه أنت وأمثالك وأتباعك «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ٨» لك الذين يدعون إلى دين آبائهم الفاسد. نزلت هذه الآية حينما كلفه كفار مكة عبادة أصنامهم ليكفوا عن أذاه فقال له ربه «وَدُّوا» هؤلاء الكفار «لَوْ تُدْهِنُ» تلين لهم في قولك وفعلك وتوافقهم على طلبهم من داهن الرجل في دينه وأمره إذا خان فأظهر خلاف ما يبطن كالمنأفق «فَيُدْهِنُونَ ٩» يلينون لك ويصيرون معك فيصافونك ويتقربون إليك، فإياك إياك يا حبيبي احذرهم.
مطلب في الأوصاف الذميمة والنميمة.
«وَلا تُطِعْ» منهم (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ١٠» حقير ذليل كذاب ولا تطع الآخرين أمثالهم أيضا لأنهم لا يريدون لك مثل ما تريد لهم من الخير، والمهانة تعتري الإنسان من قلة الرأي والتمييز وكثرة الكذب وعدم المبالاة بما يقع منه