
نقول في الوعيد المذكور في أهل الإيمان: إنه يجوز أن يلحقهم وقت إيمانهم، ويعذبهم اللَّه تعالى بإجرامهم.
ويحتمل أن يقع لهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، وهم يقطعون الوعيد عن أحد الوجهين ويجعلونه على الوجه الآخر، ونحن نلزمهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، أولا ننفي الوعيد عين لم يخرج بعد من إييانه، فصرنا نحن أشد استعمالا لما يقتضيه ظاهر الآيات منهم؛ فصار العموم حجة عليهم لا علينا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧).
ليس في هذا نفي قبول العذر لو كان لهم عذر، ولكن اعتذارهم هو الندم عما كانوا فيه والإنابة إلى اللَّه تعالى والتوبة إليه، وليس ذلك وقت قبول التوبة؛ لأن ذلك الوقت هو وقت خروج ملك أنفسهم عن أنفسهم، فلا يقبل في ذلك الوقت إيمان ولا عمل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
يعني: أن عملكم السوء هو الذي ألزمكم العذاب في الحكمة؛ فتجزون بعملكم ولستم تجزون بمنفعة ترجع إلينا أو بما حملتم من أوزار الغير، ولكن بأعمالكم الخبيثة التي في الحكمة التعذيب عليها، وفي هذا دلالة نفي العذاب عن أطفال المشركين؛ لأنه لم يوجد منهم عمل؛ فيجزون بعملهم، ولا يجوز أن يعذبوا بذنوب آبائهم؛ لأنه أخبر أن كلًّا يجزى بعمله لا بعمل غيره، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨).
ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان؛ لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين، وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة، ومن مذهب الاعتزال: أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر؛ فلا يحتاجون إلى التوبة عنها، وإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم، والكبائر تخرج أهلها -على قولهم- من الإيمان، واللَّه - تعالى - قد أبقى لهم اسم الإيمان، فمن أزال عنهم الإثم، فقد خالف نص القرآن.
وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن اللَّه تعالى يعذب على الصغائر وأنها

غير مغفورة، حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة، وقال أيضًا في آية أخرى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فإما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر؛ فيكون فيه دلالة على أنها ليست بمغفورة؛ إذا احتاجوا إلى التوبة عن الصغائر، أو عن الكبائر؛ فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان! وكذلك قال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وإن كان استغفاره هذا عن الصغائر، ففيه دلالة على أنها غير مغفورة؛ لحاجته إلى طلب المغفرة، ولو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة، لكان سؤاله المغفرة يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين؛ لأنه يطلب منه ما لا يملك، وذلك في الشاهد هزء واستخفاف بالمسئول.
وإن كان في الكبائر، ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان؛ لأنه قال: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
ثم قوله تعالى: (تَوْبَةً نَصُوحًا).
قرئ بنصب النون وضمها: (نُصُوحًا)، والضم يخرج مخرج المصدر، والنصوح -بالفتح-: يخرج مخرج النعت للتوبة، والفَعُول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر، فكأنه يقول: توبوا توبة تناهت في نصحها، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته، وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل، عازما على ألا يرجع إليه، وأن يقلع يديه عما كان فيه من المعاصي، وأن يستغفر اللَّه بلسانه؛ فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع، كما استعمل سائره في التلذذ بالمآثم؛ فذلك هو المبالغة في النصح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) بالتوبة، ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، لا أن يكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وقد سبق بيان هذا.
وقوله - تعالى -: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وللمعتزلة بهذه الآية تعلق، وهو أن قالوا بأن اللَّه تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -