
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي: تاركين التفكر فيها. ومعنى الإعراض (١): الانصراف بالوجه عن الشيء، ثم يبنى عليه الانصراف بالفكر عنه.
٥ - قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ يعني مشركي مكة ﴿بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (بما جاءهم [به] (٢) الصادق الأمين (٣)، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: أخبار استهزائهم وجزائه. قاله ابن عباس (٤) والحسن (٥). وقال الزجاج: (المعنى: سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم) (٦). ومعنى الاستهزاء: إيهام التفخيم في معنى التحقير (٧).
٦ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ الآية.
(٢) لفظ: (به) ساقط من (أ).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠.
(٤) في "تنوير المقباس" ٢/ ٤ نحوه.
(٥) لم أقف عليه بنصه، ولكن معناه موجود في عامة كتب التفسير.
انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ٢٩٢، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٢٨، و"زاد المسير" ٣/ ٤، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٩١، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٤٠.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢٨.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٥٥، و"الصحاح" ١/ ٨٣ - ٨٤، و"مجمل اللغة" ٣/ ٩٠٤، و"مقاييس اللغة" ٦/ ٥٢، و"المفردات" ص ٨٤١، و"اللسان" ٨/ ٤٦٥٩ (هزأ).

قال أبو إسحاق: (موضع ﴿كَمْ﴾ نصب بأهلكنا لا بقوله: ﴿يَرَوْا﴾؛ لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله) (١). والقرن: الأمة من الناس، وأهل كل مدة قرن؛ قال النبي - ﷺ -: "خيركم قرني" (٢). واشتقاقه من الاقتران (٣)، فالقرن: القوم المقترنون في زمان من الدهر (٤)، وقال ابن عباس في تفسير قوله: ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: (يريد: (من جيل ومن أمة) (٥)، وقوله ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: أعطيناهم ما لم
(٢) أخرجه البخاري في "صحيحه" (٢٦٥١)، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، ومسلم رقم ٢٥٣٥، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". قال عمران: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. الحديث.
وانظر شرحه في "فتح الباري" ٧/ ٥.
(٣) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٩٣، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٤٧، و"الصحاح" ٦/ ٢١٨٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٧٦، و"المجمل" ٣/ ٧٤٩، و"المفردات" ص ٦٦٧، و"النهاية" لابن الأثير ٤/ ٥١، و"اللسان" ٦/ ٣٦٠٨ (قرن).
(٤) الجمهور على أن القرن مائة سنة، وأكثر المحققين على أنه غير مقدر بزمن معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، بل المراد أهل كل عصر، فإذا انقضى أكثرهم قيل: قد انقضى القرن، وهو اختيار الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٢٩، والنحاس ٢/ ٤٠٠، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٣١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩١، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٢٨، و"مجاز القرآن" ١/ ١٨٥، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٥١، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، وابن عطية ٥/ ١٢٩، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٥، و"البحر" ٤/ ٦٥، و "الدر المصون" ٤/ ٥٣٩.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٤.

نعطكم) (١). يعني: وسعنا عليهم في كثرة العبيد والمال والثمار والأنعام. ومعنى التمكين (٢) من الشيء: إعطاء ما يصح به الفعل من الآلات والعدد والقوى، وهو أتم من الإقدار؛ لأن الإقدار: إعطاء القدرة خاصة، والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل بعدم الآلة، والتمكن ينافي التعذر (٣) والانتقال من الخبر إلى الخطاب من الاتساع والتصرف في (٤) الكلام، كما تقول: قلت لعبد الله -وقد كان شكره زيد-: ما أكرمك، أي: واجهته بهذا الخطاب، وإن شئت قلت: ما أكرمه، على الإخبار (٥).
وقوله تعالى: ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾ ثم قال: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ ولم يقل: نمكنكم، وهما لغتان، تقول العرب: مكنته ومكنت له، كما تقول: نصحته ونصحت له. قال صاحب "النظم": (العرب تتسع في الأفعال التي تتعدى
(٢) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٩٨٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٠٥، و"المجمل" ٣/ ٨٣٧، و"المفردات" ص ٧٧٣، و"اللسان" ٧/ ٤٢٥٠ (مكن).
(٣) هذا قول أبي هلال العسكري في "الفروق اللغوية" ص ٩٠، وانظر: "البحر" ٤/ ٦٦.
(٤) قال بعض أهل التفسير: في الآية رجوع من الغيبة في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ إلى الخطاب في قوله ﴿لَكُمْ﴾ للاتساع وتلوين الخطاب، قال السمين في "الدر المصون" ٤/ ٥٣٨: (فيكون على هذا التفاتًا فائدته التعريض بقلة تمكن هؤلاء ونقص أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حل بهم الهلاك، فكيف وأنتم أقل منهم تمكينا وعددًا) ا. هـ وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٦٩، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٣٦، و"غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٣٥٢، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، وابن الجوزي ٣/ ٦، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٩١.
(٥) أي يجوز. قلت لزيد: ما أكرمك أو ما أكرمه. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٩، وابن عطية ٥/ ١٣٠، و"البحر" ٤/ ٧٥.

بحروف (١) الصفات فربما عدوها (٢) بغيرها كقوله تعالى: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التكوير: ٢٦] المعنى: فإلى أين؛ وربما زادوها فيما يتعدى بغيرها كقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] وقوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ (٣) [النمل: ٧٢] ونحو هذا. قال أبو علي في قوله تعالى: ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٢١] وقوله: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الكهف: ٨٤] قال: (يجوز أن تكون اللام هاهنا على حد التي هي في قوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾، ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾ قال ابن عباس: (يريد بالغيث والبركة) (٥).
(٢) في: (أ): (أعدوها)، والصواب ما أثبته.
(٣) قال السمين في "الدر" ٤/ ٥٣٧: قال أبو علي الجرجاني: (مكناهم ومكنا لهم لغتان) ا. هـ.
(٤) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٤٢٩، وقال العسكري في "الفروق" ص ٩٠: (الصحيح أن مكنت له: جعلت له ما يتمكن به، ومكنته: أقدرته على ملك الشيء في المكان) ا. هـ وقال السمين في "الدر" ٤/ ٥٣٦ - ٥٣٧: (الفرق بينهما أن مكنه في كذا أثبته فيها، وأما مكن له فمعناه جعل له مكانًا) ا. هـ. ملخصًا. وانظر "المسائل العضديات" ص ٦٧، و"الكشاف" ٢/ ٥، والأكثر على التسوية بينهما، ويتعدى مكن بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٦، و"نزهة القلوب" ص ٣٩٩، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٥٣، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، وابن الجوزي ٣/ ٦، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٢٩، و"البحر" ٤/ ٧٦.
(٥) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٤ بسند جيد عنه قال: (يتبع بعضها بعضا) ا. هـ. وأخرج أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص ٩٤، وابن حسنون ص ٢٤، والوزان ص ٣/ ب بسند جيد عنه قال: (متتابعًا بلغة هذيل =

والسماء [معناه] (١): المطر هاهنا، والمدرار: الكثير الدر وأصله من قولهم: درّ اللبن إذا أقبل على الحالب منه (٢) شيء كثير فالمدرار يصلح أن يكون من نعت السحاب (٣) ويجوز أن يكون من نعت المطر، ويقال: سحاب مدرار إذا تتابع إمطاره ومفعال يجيء في نعت يبالغ فيه. قال مقاتل: (مدرارًا: متتابعًا) (٤) وقال المؤرج (٥): (مرة بعد أخرى) (٦). ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث (٧)
وقوله تعالى: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد بكفرهم وجرأتهم عليَّ) (٨). وقوله تعالى: ﴿وَأَنْشَأْنَا﴾ معنى الإنشاء ابتداء الإيجاد من
(١) لفظ: (معناه) ساقط من (أ). وانظر: "الزاهر" لابن الأنباري ١/ ٢٣٨.
(٢) انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ١١، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١١٧١، و"الصحاح" ٢/ ٦٥٥، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٥٥، و"المفردات" ص ٣١٠، و"اللسان" ٣/ ١٣٥٧ (در).
(٣) مثله قال الرازي ١٢/ ١٥٩، والأكثر على أن ﴿مِدْرَارًا﴾ حال من السماء، وهو الظاهر؛ لأنه بعد معرفة. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٣٧، و"المشكل" ١/ ٢٤٦، و"البيان" ١/ ٣٨١، و"الفريد" ٢/ ١٢١، و"البحر" ٤/ ٧٦، و"الدر المصون" ٤/ ٥٤١، ولعل مراد الواحدي بالنعت الحال؛ لأن أصله صفة. انظر "الأصول" لابن السراج ١/ ٢١٣، و"شرح شذور الذهب" ص ٢٤٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٠.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) ذكره الرازي ١٢/ ٧٦، عن مقاتل، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٦، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٤، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٥٠، و"نزهة القلوب" ص ٤٤٠.
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٩، والنحاس ٢/ ٤٠١.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٤.