
تفسير سورة الأنعام عدد ٥- ٥٥- ٦
نزلت بمكة بعد الحجر عدا الآيات ٢/ ٣٢ و ٩٢/ ٩٣ و ١١٤/ ١٤١ و ١٥١/ ١٥٢ و ١٥٣ فإنها نزلت بالمدينة وهي مئة وخمس وستون آية، وثلاثة آلاف وخمسون كلمة، واثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا، وتقدمت السور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الفاتحة في ج ١، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ابتدأ جل شأنه الخلق بالحمد في هذه الآية، وختمه بالحمد، في قوله جل قوله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آخر سورة الزمر الآتية، وبدأ الربع الأول بحسب ترتيب القرآن الموافق لما هو في علم الله بالحمد في سورة الفاتحة، التي ذكرنا فيها معاني الحمد وما يتعلق فيه في ج ١، وفي المقدمة في بحث الحمد أيضا ما به كفاية عن الإعادة في موضع آخر، وبدأ ربعه الثاني في هذه السورة، وربعه الثالث بالحمد في سورة الكهف، وربعه الرابع بالحمد في سورة فاطر، كل ذلك لتعظيم الحمد لديه تعالى ولحث عباده على المداومة عليه لما فيه من الفضل الجزيل والثواب الكثير وحق التأدية لنعم الله تعالى، وبين لهم كيفيته ليحمدوه بها، وجملة الحمد هنا وفي كل موضع خبرية لفظا إنشائية معنى، إلى أن من يقول الحمد لله كأنما قال أحمده على الدوام والاستمرار، وخص السموات والأرض لأنهما من أعظم مخلوقاته فيما يراه الناس، وإلا فالعرش والكرسي أعظم بكثير، وقد جاء في الخبر أن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة بفلاة، وال فيها للجنس فتشمل جميع أفرادها، وإذا كانت للعهد فالمعهود كلاهما أيضا، وإذا أريد الاستغراق فكذلك فهي صالحة للجميع. قال تعالى «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فيها إذ خلقها بعد خلقها، وجعل فيهما منافع جمة للعباد والحيوان والجماد، ومنهما جعل الليل والنهار، وفي هذه الآية رد على الثنوية القائلين بقدم النور والظلمة، وقد أفرد النور لإرادة الجنس فيصدق على الواحد والمتعدد، وجميع الظلمات باعتبار الإفراد يشمل ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموقع وظلمة البطن لمخالفة كل منها الأخرى، والنور لا يختلف. صفحة رقم 318
مطلب نشأة الكون ومبدأ الخلق وأن لكل إنسان أجلين وما يتعلق بذلك:
ومن هذا الترتيب يفهم أن خلق السموات قبل الأرض والظلمة قبل النور، إلا أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب كما هو ظاهر. قال تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وقال تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) الآية الأولى من سورة تبارك الملك الآتية، والثانية الآية ٥٥ من المائدة في ج ٣، وقدمنا ما يتعلق بنشأة الكون في الآية ٢٧ من سورة الحجر المارة وما يتعلق بمبدأه ولبحثها صلة في الآية ٣٠ من سورة الأنبياء الآتية «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ١» يساوون به غيره من الأوثان بعد أن علموا أنه الخالق، لذلك كله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وبعد أن جعل هذه المخلوقات لمنافعهم ذكرهم بأصول خلقهم علهم ينتهون فقال «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» ابتدأ خلق أبيكم آدم منه، أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض (أي ألوانها) منهم الأحمر ومنهم الأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك. وقد نزلت هذه الآية ردا على المشركين الذين ينكرون البعث بعد الموت يفهمهم فيها أن الذي يخلق من الطين بشرا ألا يقدر على إعادته بعد فنائه وإحيائه بعد إماتته، بلى، وهو أهون عليه، لأن الخلق الأول على غير مثال سابق والإعادة عبارة عن خلقه على حالته الأولى، فالذين يعملون الآن السيارات والطيارات والدبابات والقذائف والألغام وغيرها لا فضل لهم بها لأن الفضل كله إلى الذي ابتكر صنعها إبداعا بتعليم الله إياه، ولهذا يقول الله تعالى (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الآية ١٥ من سورة ق في ج ١، وإنما قال ذلك لأن الخلق الثاني عبارة عن إعادة ما خلقه أولا وليس بشيء عنده، واعلم أن ما يخلقه الإنسان هو من خلق الله، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٧ من الصافات الآتية، وإن عملهم هذا تقليد للمخترع الأول الذي ابتكر صنعها ليس إلا، لأن الشيء بعد إيجاده يسهل تقليده والعسر كل العسر في إبداعه وتصويره وإنشائه، ولا سواء بين الخالق والمخلوق، لأن المخلوق يحتاج للتعب والتفكر والتدبر وما يعتمد

عليه من آلات ومعادن واحتياجه إلى المعونة، والله تعالى يقول للشيء كن فيكون حالا إذا أراده بين الكاف والنون، أنظر بساط سليمان عليه السلام المشار إليه في الآية ١٢ من سورة سبأ الآتية، وسفينة نوح عليه السلام الملمع إليها في الآية ٤١ من سورة هود المارة وقس بينهما وبين طائراتنا ومراكبنا وخذ العبرة، فإن البساط يطير والسفينة تجري بمجرد قولهما بسم الله وينزل البساط وترسو السفينة بمجرد قولهما باسم الله أيضا دون حاجة إلى رجال وآلات وزيت وكاز وغيرها، ومصنوعات البشر تحتاج لذلك كله فضلا عن أنها معرضة للخراب وهلاك ركابها، وصنع الله لا يخرب وأهلها في مأمن من ذلك «ثُمَّ قَضى أَجَلًا» لكل شيء خلقه من وقت بروزه وتكوينه، أي وقت ولادته ووجوده ومن الولادة والوجود إلى وقت الموت والفناء «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» قضاء أيضا لهذه المخلوقات غير الأجلين المذكورين وهو من الموت والفناء إلى البعث والنشور، ومنهما إلى دخول الجنة والنار، فيكون لكل أجلان في الدنيا والآخرة لا يعلم مقدارهما ووقتهما إلا هو، لأنه من جملة الخمسة التي اختص بها نفسه المقدسة المذكورة آخر سورة لقمان الآتية، قال ابن عباس رضي عنهما في تفسير هذه الآية: لكل أحد أجلان (يريد في الدنيا والآخرة كما جرينا عليه) فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر أي في الدنيا، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص له من أجل العمر وزيد في أجل البعث، مستدلا بقوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) الآية ٧ من سورة فاطر المارة في ج ١، ولهذا البحث صلة في الآية ٣٩ من سورة الرعد في ج ٣، وفي الآية ٤ من سورة نوح، والآية ٩ من سورة إبراهيم الآتيتين، وبهذا قال قتادة والحسن والضحاك، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأول أجل الدنيا والثاني أجل الآخرة، أي بقطع النظر عن أجل البرزخ لدخوله في أجل الآخرة، والظاهر هو ما جرينا
عليه في تفسير الآية، ومعنى قضى قدر وحكم وكتب في الأزل، ويراد بالكتابة ما تعلمه الملائكة، كما جاء في حديث الصحيحين: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح

ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ٢» في آلهتنا وتشكون في وحدانيتنا، مأخوذ من المرية أو تجادلون إذا كان المراء، وقد أتى بحرف التراخي في الآيتين للاستبعاد في هذا الشك بعد أن ثبت أن الفاعل لخلق السموات وما بعدها الوارد ذكره في الآية والقادر على الإحياء والإماتة والبعث هو الله وحده، ومع هذا يشكون ويجادلون «وَهُوَ اللَّهُ» الإله الواحد المعبود بحق «فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ» وهذه على حد قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) الآية ٤٨ من سورة الزخرف الآتية «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ» في أعمالكم وأقوالكم «وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ٣» من خير أو شر في الخفاء والجهر، وما يستحقه كل منكم من ثواب وعقاب «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم ومربيهم على يد رسولهم «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ٤» لا يلتفتون إليها ولا يحترمونها ولا ينظرون إلى من أنزلت عليه ولا لمن أنزلها لهم، ووصف الله تعالى كفار مكة بكثرة التهاون في ذلك حتى كأنهم لم يرسل إليهم رسولا ولم يظهر لهم آية «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ» المنزل إليهم وهو القرآن الذي شرفنا به نبيهم آية عظيمة على صدقه «لَمَّا جاءَهُمْ» به وتلاه عليهم «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٥» عند نزول العذاب عليهم في الدنيا بالقتل والأسر والجلاء، ويوم القيامة بالإحراق بالنار، وحينذاك يعرفون عاقبة استهزائهم وأخبار سخريتهم وإعلام تكذيبهم، وفيها من الوعيد ما لا يخفى. قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» من زمن نوح إلى زمنهم، لأن القرن هنا عبارة عن كل أمة هلكت ولم يبق منها أحد وهو المراد والله أعلم، وإن كان القرن يطلق على مطلق الوقت، والزمن ما بين عشر سنين ومئة سنة على أقوال فيه، راجع الآية ٣٨ من سورة الفرقان في ج ١ وهؤلاء المهلكون قد «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» جعلناها قرارا لهم ومكنّا لهم فيها وملكناهم وزودناهم بالأموال والأولاد «وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً» لتكثير خيراتهم ودوامها بتتابع الغيث على أراضيهم «وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ» زيادة في التنعيم وسقي جناتهم ولابتهاج النظر إليها،
صفحة رقم 321
ولما أرسلنا الرسل ودعوهم للإيمان بنا وبرسلنا والوفاء بالعهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر وترك الأوثان والتمسك بطرق الخير وترك سبل الشر والإيمان بالبعث بعد الموت (راجع الآية ١٧٢ من سورة الأعراف في ج ١) لم يلتفتوا إليهم وأنكروا عليهم دعوتهم وكذبوهم «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» لأنهم لم يراعوا حقّ نعمتنا المتوالية عليهم ولم يصدقوا رسلهم «وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ٦» بمقتضى سنتنا المطردة وهي أنا كلما أنشأنا قرنا ودعوناه للإيمان بنا فلم يؤمن أهلكناه وأنشأنا غيره، وأنتم يا أهل مكة سيكون مصيركم الهلاك إن لم تؤمنوا بنبيكم لأنا لا نخرم سنتنا، قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد:
لا نؤمن بك يا محمد حتى تأتينا بكتاب من عند الله مع أربعة من الملائكة يشهدون على أنه من عند الله وأنك رسول الله، فأنزل الله «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» وظهر لهم كما أرادوا، لأن اللمس أبلغ من المشاهدة «لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» والمقترحون خاصة «إِنْ هذا» ما هو بقرآن ولا هو مكتوب على ورق وليس بشيء وإن كنا نراه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ٧» تخيّل علينا به ووقّه كما قالو في انشقاق القمر تعنتا وعنادا لأنهم لا ينتفعون بالآيات بسبب إصرارهم على الكفر «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ»
يشهد له بأنه مرسل من الله لآمنا به وصدقناه. قال تعالى «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً» على رسولهم محمد كما طلبوا «لَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاكم لأنا لا نرسل الملائكة إلا لتنفيذ أوامرنا وإنجاز وعيدنا وقد جرت عادتنا أن كل أمة اقترحت على نبيها شيئا وآتاهم ما اقترحوه ولم يؤمنوا استأصلناهم بالعذاب ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ٨» إذ لا تقبل التوبة عند نزوله، وإنما لم نفعل ذلك لما هو ثابت في علمنا أزلا أن منهم من يؤمن «وَلَوْ جَعَلْناهُ» ذلك الرسول «مَلَكاً» وهذا رد لقولهم لو شاء ربك لأنزل ملائكة لهداية البشر، لأن البشر لا يهدي مثله بزعمهم الباطل «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» على صفة المرسل إليهم، لأن البشر لا يستطيع النظر إلى صورة الملك الحقيقية، ولذلك حينما نرسل الملائكة إلى البشر نرسلهم بصورة البشر كما فعلنا ذلك مع داود ولوط وابراهيم وكما جاء جبريل إلى محمد بصورة