
بعد خلق العالم الصغير وهو الإنسان، وجعل فيه ما في العالم الكبير. وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٢- ١٣].
٦- حدّد الله تعالى أجل الدنيا وأجل القيامة، وأجل الإنسان بالموت والبعث، فلا يعلم الإنسان متى يموت، ومتى يبعث. فالمراد من قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حكم أجلا وهو أجل الدنيا أو الموت، وقوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل ابتداء القيامة والآخرة.
٧- الله المعظم وهو المعبود في السموات وفي الأرض، وهو المنفرد بالتدبير فيهما، وهو الذي يعلم سرّ العباد وجهرهم في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء. وكل ذلك مع مراعاة القاعدة: وهي تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة.
والله يعلم ما يكسبه كل إنسان من خير أو شر، والكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لا يقال لفعل الله: كسب.
سبب كفر الناس بآيات ربّهم وإنذارهم بالعقاب
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)

الإعراب:
كَمْ خبرية اسم للعدد، منصوب بأهلكنا، لا بفعل يَرَوْا لأن الاستفهام وما يجري مجراه له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
البلاغة:
مِنْ قَرْنٍ أي من أهل قرن، فهو مجاز مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال.
ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً عبّر عن المطر بالسماء من قبيل المجاز المرسل، وعلاقته السببية لأن المطر ينزل من السماء.
المفردات اللغوية:
وَما تَأْتِيهِمْ أي أهل مكّة. مِنْ صلة زائدة لاستغراق الجنس. آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ هي الآيات القرآنية المرشدة إلى وجود الله ووحدانيته والمثبتة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. مُعْرِضِينَ متولّين عنها، والإعراض: التولّي عن الشيء. بِالْحَقِّ القرآن أو دين الله الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. والحق في الأصل: الأمر الثابت المتحقّق في نفسه. أَنْباءُ أخبار، والمراد هنا عواقب استهزائهم، والأنباء: ما تضمّن القرآن من وعد بنصر الله لرسله، ووعيد لأعدائه بالهزيمة في الدّنيا والعذاب في الآخرة.
أَلَمْ يَرَوْا في رحلاتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وغيرهما. مِنْ قَرْنٍ أمّة من الأمم الماضية، والقرن من الناس: القوم الذين يعيشون في زمان واحد، ومدّته مائة سنة. وجمعه قرون، وقد جاء في القرآن مفردا وجمعا. مَكَّنَّاهُمْ أعطيناهم مكانا بالقوة والسّعة، ومكّنه في الأرض أو في الشيء: جعله متمكّنا من التّصرّف فيه. ومكّن له: أعطاه أسباب العزّة والتّمكّن في الأرض مثل قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [النور ٢٤/ ٥٥]، وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص ٢٨/ ٥٧]، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر النازل من السماء. مِدْراراً متتابعا غزيرا. مِنْ تَحْتِهِمْ تحت مساكنهم. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء.
قَرْناً آخَرِينَ أمّة أو جماعة آخرين.
المناسبة:
تكلّم الله تعالى في الآيات السابقة أوّلا عن التّوحيد، وثانيا في المعاد

والبعث، وثالثا فيما يثبت الأمرين بالدّلائل الواضحة، ثمّ ذكر هنا ما يتعلّق بالنّبوة، فأبان سبب إعراض الكفار عن آيات ربّهم بعد إتيان النّبي صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو إشراكهم بالله وتكذيبهم الرّسل، وأنذرهم عاقبة التّكذيب بالحقّ بدليل ما حلّ بالأمم قبلهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن المشركين المعاندين أنهم كلّما أتتهم معجزة وحجّة دامغة من دلائل وحدانية الله وصدق رسله الكرام، أعرضوا عنها، ولم ينظروا فيها، ولم يبالوا بها.
وما تأتي المشركين يا محمد بأي آية من آيات القرآن المنزّلة من ربّهم الذي ربّاهم، وتعهّدهم في حالتي الضعف والقوّة، وكفل لهم رزقهم، وأنعم عليهم بكل شيء في أنفسهم وفي الأرض والسماء، تلك الآيات الدّالة على بديع صنع الله، ما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها استهزاء، كما قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢].
وفسّر القرطبي الآية بالعلامة كانشقاق القمر ونحوها، وكذلك فسّر ابن كثير الآية بالمعجزة والحجّة على وحدانية الله.
وسبب ذلك الإعراض عن النّظر في آيات الله: تكذيبهم بالحقّ الذي جاءهم، وهو دين الإسلام الذي أتى به خاتم الأنبياء.
ثمّ هدّدهم وتوعّدهم على تكذيبهم بالحقّ بقوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أي بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التّكذيب، وسيجدون عاقبة أمرهم وهزئهم، كالقتل والسّبي والطّرد من البلاد، وقد تحقّق ذلك، فنزل بهم القحط، وحلّت بهم الهزيمة يوم بدر وفتح مكّة.

قال الرّازي: رتّب تعالى أحوال هؤلاء الكفار على مراتب ثلاث: إعراض عن التّأمّل في الدّلائل والتّفكّر في البيّنات، وكونهم مكذّبين بها، ثم كونهم مستهزئين بها، وكلّ مرتبة أشدّ مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذّبا به، بل يكون غافلا عنه، والمكذّب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء «١».
ثمّ بيّن الله تعالى أن الوعيد بالعذاب سنّة الله في المكذّبين، فقال: أَلَمْ يَرَوْا.. أي ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بالحقّ أنّا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة قبلهم، مثل قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، الذين كذّبوا رسلهم، بالرّغم من إعطائهم من أسباب القوة والسّعة في الرّزق والاستقلال والملك، ما لم نعطهم مثله. والقرن: الأمّة من الناس، الذين يعيشون في عصر واحد مائة سنة. والرؤية في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب.
امتازوا بالغنى عن كفار قريش، فكانت الأمطار تنزل عليهم بكثرة وغزارة وتتابع، وكانت الأنهار تجري من تحت مساكنهم.
فلما كفروا بأنعم الله أهلكناهم بسبب ذنوبهم وتكذيبهم رسلهم، وأوجدنا من بعدهم قوما آخرين، وجيلا جديدا يعمرون البلاد، ويكونون أجدر بشكر النّعمة.
أي إن ذنوبهم التي أدّت إلى الهلاك نوعان: تكذيب الرّسل، وكفران النّعم، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [عاصمتها] رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٨- ٥٩].

والغرض من هذا وعظ أهل مكّة وتحذيرهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدّنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السّالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها.
فقه الحياة أو الأحكام:
موقف الكفار من دعوات الأنبياء للإصلاح يتميّز بالإعراض والعناد، ويهمل العقل والفكر، ويقوم على التّهكّم والاستهزاء، وهذا ليس من سمات الرّجال العقلاء الذين يعتمدون على تقليد الأسلاف بدون رويّة ولا تفكّر.
من مظاهر هذا الموقف: تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلّوا بها على توحيد الله جلّ وعزّ من خلق السّموات والأرض وما بينهما، سواء أكانت الآية قرآنية، أم معجزة من معجزات النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي أيّده الله بها، ليستدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به، كانشقاق القمر ونحوه، أم حجّة وبرهانا من الكون يرشد إلى ضرورة الاعتراف والإيمان بوجود إله واحد قديم حيّ غني عن جميع الأشياء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء من أحوال الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم وغير ذلك.
ومن مظاهر موقفهم أيضا: تكذيبهم مشركي مكّة بالحقّ الثّابت من عند الله وهو القرآن وإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى توعّدهم بالعقاب وأنذرهم بالعذاب، فأمر نبيّه بالصّبر، وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وهو العذاب الذي سينزل بهم في الدّنيا كيوم بدر، والعذاب المنتظر لهم يوم القيامة.
وذكّرهم الحقّ تعالى بأحوال من قبلهم، فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا...
أي ألا يعتبرون بمن أهلك الله من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم، والمعنى: ألم يعرفوا ذلك، فالله تعالى أمرهم بكلّ أسباب القوّة والسّعة والتّمكّن في الأرض أكثر مما مكّن لأهل مكّة من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسّعة