
فقه الحياة أو الأحكام:
الاستجابة لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون، فينتفعون به ويعملون.
أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس، فهم لا يسمعون سماع تدبر، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم، لا موتى أجساد، وهذا سبيل الكفار.
وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الإخبار بالمغيبات، وسلامته من التناقض، وسمو نظمه.
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته.
كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)

الإعراب:
ما مِنْ دَابَّةٍ وما... مِنْ شَيْءٍ من في المكانين: صلة زائدة تفيد التأكيد.
البلاغة:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما، لدفع توهم المجاز، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. صُمٌّ وَبُكْمٌ تشبيه بليغ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.
المفردات اللغوية:
دَابَّةٍ الدابة: كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ: المشي الخفيف طائِرٍ الطائر: كل ذي جناح يطير في الهواء، وجمعه طير. أُمَمٌ جمع أمة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها ما فَرَّطْنا ما تركنا، التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت فِي الْكِتابِ هنا: اللوح المحفوظ يُحْشَرُونَ الحشر: الجمع والسّوق، وبعد الحشر يقضي الله بينهم، ويقتص للجماء من القرناء، ثم يقول لأنواع الحيوان: كونوا ترابا. بِآياتِنا القرآن صُمٌّ عن سماعها سماع قبول وَبُكْمٌ عن النطق بالحق فِي الظُّلُماتِ المراد هنا الكفر صِراطٍ طريق، والطريق المستقيم: هو دين الإسلام.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها، ذكر الدليل على ذلك: وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين.
التفسير والبيان:
لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها

وطبائعها، والله تعالى يدبرها ويرعى شأنها ويحسن إليها.
وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٩].
ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب: وهو اللوح المحفوظ: (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦]. والأظهر عند الرازي وجماعة: أن المراد بالكتاب: القرآن لأن اللام للعهد السابق، والمعهود السابق: هو القرآن.
ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة، ويجازي كلا منها، كما قال: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير ٨١/ ٥].
روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما».
وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ ٧٨/ ٤٠].

أما الكافرون الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على الوحدانية وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم: وهو الذي لا يسمع، أبكم: وهو الذي لا يتكلم، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول:
ولا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في ظلمات: ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة عادات الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة ٢/ ١٧- ١٨] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه.
والله هو المتصرف في خلقه بما شاء، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومن شاء هدايته لطف به، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة.
فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد، ومن هداه، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل، فلأنه نظر نظرة مستقلة، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الله قادر على كلّ شيء، رحيم بالمخلوقات، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية، في أن الله خلقهم، وتكفّل بأرزاقهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به، قال الزجاج في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص.
وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان، والاستفادة

منها، فإن جميع ما في الأرض مخلوق لمصلحتنا ومنفعتنا.
ودل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة،
روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء- التي لا قرن لها- من الشاة القرناء».
ودل قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم، وهم في ظلمات الكفر يتيهون.
وأرشد قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ... إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله، ولكن لم يأمره به، وإنما دعاه إلى الإيمان، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.
قال الرازي: وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات «١»، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل.
وأما دلالة قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب، فعلى القول بأن المراد منه: الكتاب المحفوظ في