
كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم، واقتد بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم.
* * *
وبنحو ذلك تأوَّل من تأوَّل هذه الآية من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣١٩٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا"، يعزِّي نبيه ﷺ كما تسمعون، ويخبره أن الرسل قد كُذّبت قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين.
١٣١٩٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"ولقد كذبت رسل من قبلك"، قال: يعزّي نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
١٣٢٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولقد كذبت رسل من قبلك"، الآية، قال: يعزِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك، يا محمد، إعراض هؤلاء المشركين عنك، وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي

بعثتُك به، فشقَّ ذلك عليك، ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم (١) ="فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض"، يقول: فإن استطعت أن تتَّخذ سَرَبا في الأرض مثلَ نَافِقاء اليَرْبُوع، وهي أحد جِحَرِته فتذهب فيه (٢) ="أو سُلمًا في السماء"، يقول: أو مصعدًا تصعد فيه، كالدَّرَج وما أشبهها، كما قال الشاعر: (٣)
لا تُحْرِزُ الْمَرْءُ أَحْجَاءُ البِلادِ، وَلا | يُبْنَى لَهُ فِي السَّمَاوَاتِ السَّلالِيم (٤) |
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٢٠١ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(٢) انظر تفسير"ابتغى" فيما سلف ١٠: ٣٩٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) هو تميم بن أبي بن مقبل.
(٤) من قصيدة له جيدة، نقلها قديمًا، والبيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٩٠، وشرح شواهد المغني: ٢٢٧، واللسان (سلم) (حجا)، وغيرها، وقبل البيت، وهي أبيات حسان:
إنْ يَنْقُصِ الدّهْرُ مِنِّي، فالفَتَى غَرَضٌ | لِلدَّهْرِ، من عَوْدهِ وَافٍ وَمَثْلُومُ |
وَإنْ يَكُنْ ذَاكَ مِقْدَارًا أُصِبْتُ بِهِ | فَسِيرَة الدَّهْرِ تَعْوِيجٌ وتَقْويمُ |
مَا أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَن الفَتَى حَجَرٌ | تَنْبُو الحَوَادِثَ عَنْهُ وهو مَلْمُومُ |
لا يمنع المرءَ أنصارٌ وَرَابيةٌ | تَأْبَى الهَوَانَ إذَا عُدَّ الجَرَاثِيمُ |
لا يُحْرِزُ المَرْءَ........ | ................... |
(٥) انظر تفسير"آية" فيما سلف في فهرس اللغة (أيي).
(٦) قوله: "فافعل"، أي: "إن استطعت أن تبتغي نفقًا... فافعل".

معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء"، و"النفق" السَّرب، فتذهب فيه ="فتأتيهم بآية"، أو تجعل لك سلَّمًا في السماء، (١) فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل.
١٣٢٠٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض"، قال: سَرَبًا ="أو سلمًا في السماء"، قال: يعني الدَّرَج.
١٣٢٠٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء"، أما"النفق" فالسرب، وأما"السلم" فالمصعد.
١٣٢٠٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"نفقًا في الأرض"، قال: سربًا.
* * *
وتُرِك جواب الجزاء فلم يذكر، لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه. وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطبين به، فيقول الرجل منهم للرجل:"إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا، إن قدرت على مَعُونتنا"، ويحذف الجواب، وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل. فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب، لم يحذفوه. لا يقال:"إن تقم"، فتسكت وتحذف الجواب، لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره،

حتى يقال:"إن تقم تصب خيرًا"، أو:"إن تقم فحسن"، وما أشبه ذلك. (١) ونظيرُ ما في الآية مما حذف جَوَابه وهو مراد، لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر: (٢)
فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلا تَذْ... هَبْ بِكِ التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (٣)
والمعنى: فبحظٍّ مما نعيش فعيشي. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك، لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة، لجمعتهم على ذلك، ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي، ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم ="فلا تكونن"، يا محمد،"من الجاهلين"، يقول:
(٢) هو عبيد بن الأبرص.
(٣) مضى البيت وتخريجه فيما سلف ٣: ٢٨٤. وكان البيت في المخطوطة على الصواب كما أثبته، وإن كان غير منقوط. أما المطبوعة، فكان فيها هكذا. فتحطْ مما يعش ولا تذهب... بك التُرهّات في الأهوال
أساء قراءة المخطوطة، وحرفه.
(٤) في المطبوعة: "والمعنى: فتحط مما يعش فيعشى"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.

فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه، (١) وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا، فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٢٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، الدلالةُ الواضحة على خطإ ما قال أهل التَّفْويض من القدريّة، (٢) المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاءَ توفيقه من خلقه، يلطفُ بها له حتى يهتدِيَ للحقّ، فينقاد له، وينيبَ إلى الرشاد فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله. وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاءَ الهداية لجميع من كفر به، حتى يجتمعوا على الهدى، فعلَ. ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم، كانوا مهتدين لا ضلالا. وهم لو كانوا مهتدين، كان لا شك أنّ كونهم مهتدين كان خيرًا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى، تركٌ منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خيرٌ لهم فيه، مما هو قادر على فعله بهم، وقد
(٢) "أهل التفويض": هم الذين يقولون: إن الأمر فوض إلى الإنسان، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق لأفعاله، والاختيار بيده. انظر ما سلف ١: ١٦٢، تعليق: ١.
وأما "القدرية"، و"أهل القدر"، فهم الذين ينفون القدر. وأما الذين يثبتون القدر، وهم أهل الحق، فهم: "أهل الإثبات". وانظر ما سلف ١: ١٦٢، تعليق: ١.

ترك فعله بهم. وفي تركه فعل ذلك بهم، أوضحُ الدليل أنه لم يعطهم كل الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية، ويتسبّبون بها إلى الإيمان.
* * *