
عند انقراض الحياة إلا الحسرة والندامة، كاللهو واللعب يلتذ به، ثم بعد انتهائه لا يبقى منه إلا الندامة.
وأومأ قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة.
ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى.
حزن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
الإعراب:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتشديد، أراد به: لا ينسبونك إلى الكذب لأنهم لا يعرفونك بذلك، وإنما يعرفونك بالصدق، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف، ومعناه: لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.

مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره: ولقد جاءك مجيء من نبأ المرسلين، ويكون الفعل جاءَكَ دالا على المصدر المحذوف، وهذا مذهب سيبويه. والثاني- أن تكون زائدة، وتقديره: ولقد جاءك نبأ المرسلين، وهو مذهب الأخفش.
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إن: شرط، وجوابه محذوف، وتقديره: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك.
البلاغة:
كُذِّبَتْ رُسُلٌ نوّن كلمة رُسُلٌ للتكثير والتفخيم.
المفردات اللغوية:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ قد: للتحقيق، وإنه: الضمير للشأن لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في السر، لعلمهم أنك صادق، والتكذيب: الرمي بالكذب.
بِآياتِ اللَّهِ القرآن يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب، أو إثبات ما نفي فيه. لِكَلِماتِ اللَّهِ هي وعده ووعيده، وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالخذلان، كما قال تعالى في إنجاز الوعد: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٣] وقال عز وجل في إنزال الوعيد: أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٤- ٤٥] نَبَإِ النبأ: هو الخبر ذو الشأن العظيم كَبُرَ عظم وشق عليه وقعة إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، والمراد: إعراضهم عن الإسلام، وقد كبر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم إعراضهم لحرصه عليهم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب ما فيه كلفة ومشقة، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله، وفي الشر كابتغاء الفتنة نَفَقاً سربا في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج أَوْ سُلَّماً مصعدا أو مرقاة، مأخوذ من السلامة، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك، وتذكيره أفصح من تأنيثه. بِآيَةٍ معجزة مما اقترحوا.
المعنى: أنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى يحكم الله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ولكن لم يشأ ذلك، فلم يؤمنوا فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بذلك، الجهل هنا: ضد

العلم، وليس كل جهل عيبا لأن الإنسان محدود العلم، وإنما العيب بجهل ما يجب عليه علمه، أو ما ينبغي عليه معرفته من الكمال في حقه.
سبب النزول: نزول الآية (٣٣) :
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ: روى الترمذي والحاكم عن علي: أن أبا جهل قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة.
وقال السّدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، كان يكذب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية، وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
المناسبة:
الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام،

ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان ينكر رسالة البشر، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول، متهما إياه بالكذب في الظاهر، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.
التفسير والبيان:
يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وإيلامه بالإعراض عن دعوته، فيقول: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كما جاء في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦] وباخِعٌ نَفْسَكَ أي مهلكها، وقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨].
ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر: هو العناد والجحود، كما قال تعالى:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع، فأنت الصادق الأمين في نظرهم، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون الحق، ويجحدون بآيات الله، ويردونها بصدودهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله، إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه،

كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس.
لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين، كما نصر رسله الكرام السابقين.
ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل، فقال: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين، وكذا وعيده لا حق بالكافرين، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.
ونظير هذه قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر ٣٥/ ٤] وقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج ٢٢/ ٤٢].
والآية تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥] وقال أيضا: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل ٧٣/ ١٠].
وقد تحقق فعلا أثر الصبر، ونجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في المشارق والمغارب، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب، ويؤذن بالفرج: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح ٩٤/ ٥- ٦].

ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] وقال أيضا: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم ٣٠/ ٤٧] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين، كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج ٢٢/ ٤٠] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧].
وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، فقال له: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ... أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض، فتسير فيه، أو سلّما في أجواء السماء، فترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بها، ولكنك مجرد رسول من عندنا، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عز وجل.
ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما:
تفجير ينبوع في الأرض، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩٣] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.

كل ذلك مرهون بإرادة الله ومشيئته، فلو شاء الله تعالى هدايتهم، لهداهم، بأن يخلق فيهم الإيمان كالملائكة، أو بأن يخلقهم مستعدين للإذعان للحق والإقرار بهدايات الرسل وما جاؤوا به من خير للعالم، ولكن شاء الله اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم، كما قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٩٩] وقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ...
[هود ١١/ ١١٨- ١١٩].
قال ابن عباس في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.
وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صادق أمين، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي: ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي:
١- إنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة.

٢- إنهم لا يقولون: إنه كذاب لأنهم جربوه الدهر الطويل، وما وجدوا منه الكذب البتة، وسموه بالأمين، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة، واعتقدوا أنه تخيل كونه رسولا من عند الله.
٣- إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه، كذبوه، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له.
٤- إنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، ويقولون في كل معجزة: إنها سحر، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين «١».
أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين.
ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين.
وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله، على سبيل الافتراض، فإنها فاشلة خائبة لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه، ولولا ذلك لما حدثت.
وأمر الهداية مرجعه إلى الله، فلو شاء لهدى الناس جميعا، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.