
معرفة أهل الكتاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم والافتراء على الله وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
الإعراب:
الَّذِينَ خَسِرُوا إما نعت لقوله: الَّذِينَ قبله. وفاء: فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء جواب.
وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ مبتدأ مرفوع، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. وأَظْلَمُ: خبر المبتدأ، إلا أنه يفتقر إلى تمام، وتمامه: مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه، وهي بمعنى ابتداء الغاية. إِنَّهُ ضمير الشأن.
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ اسم تَكُنْ المرفوع، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا خبر تَكُنْ المنصوب، كأنه قال: لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب فِتْنَتُهُمْ، جعل اسم يكن أَنْ قالُوا كأنه قال: لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين: أحدهما- لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ، والثاني: لأن القول هو الفتنة في المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.
وَاللَّهِ رَبِّنا رَبِّنا: وصف لقوله: وَاللَّهِ ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف، وتقديره: يا ربّنا. وما كُنَّا مُشْرِكِينَ جواب القسم، ورَبِّنا اعتراض وقع بين القسم وجوابه.
البلاغة:
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.

الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فيه إيجاز بالحذف، أي تزعمونهم شركاء.
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا تعجب من كذبهم الغريب.
المفردات اللغوية:
يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ القرآن. نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا توبيخا. كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء لله. فِتْنَتُهُمْ كفرهم، والمعنى المراد: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد: ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب.
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنهم. وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفترونه على الله من الشركاء، يفترون ألوهيتها وشفاعتها.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟
فقال: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله تعالى «١».

التفسير والبيان:
إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي وأنه خاتم الرسل، كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء فإن صفته في كتبهم واضحة، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته.
وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته.
لهذا كان السبب في إنكار نبوته: ما قاله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.. أي إن إنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناشئ من خسارتهم أنفسهم، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم، وتساووا مع بقية المسلمين.
هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة، ولضعف إرادتهم، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا آباؤنا، وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: والملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا، ولم يؤمنوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم خسارة للنفس، ثم أبان تعالى أن

الافتراء على الله ظلم للنفس: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى.. أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ولا أحد أظلم لنفسه ممن زعم أن لله ولدا أو شريكا.
ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وعاقبة الظلم: عدم الفلاح، فلا يفلح المفتري ولا المكذب، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة- يوم الحساب والجزاء.
وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار، فقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.. أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما: أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، ويشفعون لكم عنده، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص ٢٨/ ٦٢] وقال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام ٦/ ٩٤].
ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا، فيبادرون إلى إنكار الشرك. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ... أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو- كما صوب الطبري- لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة: ما كنا مشركين.

وهنا تساؤل ذكره الزمخشري: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا نفع فيه؟ ثم أجاب: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما، حيرة ودهشة. وهناك حالة مماثلة: يقولون وهم يعذبون في النار: ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود ولم يشكّوا فيه.
ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر، توهما منهم أن ذلك ينفعهم، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك، كما قال تعالى: قالُوا: رَبَّنا، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
[النحل ١٦/ ٨٦] وقال تعالى:
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢].
سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقال: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا لنجحد: قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٤٢]. أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك، فتارة يكذبون، وتارة يصدقون، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة.
وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس: هي الشرك في الدنيا، لكن على تقدير مضاف: هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب: وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة.
وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تأمل

وتعجب من كذبهم الصريح، بإنكارهم الشرك، وكذبهم باليمين الفاجرة بإنكار ما صدر عنهم.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم.
ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا [غافر ٤٠/ ٧٣- ٧٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار.
المشهد الأول- أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة أمره، وصدقه، ورسالته، ولكنهم قوم معاندون، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية.
المشهد الثاني- أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته.
ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.