آيات من القرآن الكريم

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝ

في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي. وعد منها- واقتصر عليهم بعضهم- الوعد والوعيد.
وقوى الإمام بهذه الآية ما ذهب إليه الإمام مالك، وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها. وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين: الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا. والثاني أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال: إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذا وجب حمله على المخلب.
والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين. الأول إفادة التركيب الحصر لغة، والثاني أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع. وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصا باليهود. وحينئذ فما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير
ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي اليهود كما قال مجاهد، والسدي، وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد بعنوان الإشراك، وقيل: الضمير للمشركين فالمعنى على الأول إن كذلك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم فَقُلْ لهم رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ عظيمة واسِعَةٍ لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي لا يدفع عذابه بالكلية عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا.
وعلى الثاني فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد، وقيل: المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى: وَلا يُرَدُّ إلخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لاحق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا.

صفحة رقم 292

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا حكاية لفن آخر من أباطيلهم والأخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: ٣٥] صريح في أنه من عند الله تعالى، وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الإعجاز لكلامه ولم يكن الإعجاز به فقط كما في قوله مضعف لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا شيئا ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف: ١٠٤] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم

صفحة رقم 293

إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عز وجل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والإرادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عز وجل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى.
وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عز من قائل: كَذلِكَ أي مثل ما كذب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم أسلافهم المشركون. وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم. ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم: إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم: إن ما نرتكبه مشروع مرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول، وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا. وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي، ويجوز أيضا أن يقال مقصود المشركين من قولهم ذلك: رد دعوة الأنبياء عليهم السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذكور في كثير من الكتب الكلامية. وحاصله حينئذ أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطا بالاستطاعة فينتج أن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب، ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنها لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة.
وسيأتي توجيه آخر إن شاء الله تعالى قريبا للآية.
وعطف آباؤُنا على الضمير المرفوع في أَشْرَكْنا وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان، وقد فصل بلا هاهنا، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وإن لم يفصل حرف العطف. وادعى الإمام أن في الكلام تقديرا لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الإشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا إشكال. حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه- على ما قيل- إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء.
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم فَتُخْرِجُوهُ أي فتظهروه لَنا على أتم وجه وأوضح بيان، وقيل: المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما ادعيتهم أن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان، وجعل إمام الحرمين في الإرشاد هذا وما بعده دليلا على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزؤون بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام حيث قرع

صفحة رقم 294

مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق.
إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون في ذلك إِلَّا الظَّنَّ الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون على الله تعالى، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر قُلْ فَلِلَّهِ خاصة الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان، وقال شيخ مشايخنا الكوراني: الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جودا ورحمة لا وجوبا. وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد به إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة فَلَوْ شاءَ هدايتكم جميعا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.
وقال الكوراني: المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول. وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر. وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عز وجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع، واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون.
المقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وإن أقامتهم الحجة بذلك خاصة، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان. والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين.
ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة.
وقوله سبحانه: فَلَوْ شاءَ إلخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب

صفحة رقم 295

بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة، ثم قال: وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النخل يجب أن يكون عندكم حقا لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة، وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه، ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلو عن دغدغة فتدبر قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أي احضروهم للشهادة وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم. وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال.
وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال.
وعلى هذا تكون هَلُمَّ اسم فعل مطلقا كما في شرح التسهيل وعليه الرضي حيث قال: وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظرا إلى أصله. وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس، واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر. ودفع بما نقله الرضي عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به ما فعل. ويكون متعديا بمعنى احضر وائت ولازما بمعنى أقبل كما في قوله تعالى: هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب: ١٨] الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم. والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم وإظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم. وهذا إشارة إلى ما حرموه من الأنعام على ما حكته الآيات السابقة.
وقال مجاهد: إشارة إلى البحائر والسوائب فَإِنْ شَهِدُوا أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالرضا، وإرادة هذا المعنى من «لا تشهد» إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة، ومن الناس من زعم أن ضمير شَهِدُوا للمشركين أي فإن لم يجدوا شاهدا يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد، وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فإن لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر للإيماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها، والخطاب- قيل- لكل من يصلح له. وقيل: لسيد المخاطبين والمراد أمته.
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس، وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الإقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع إنكار الآخرة ولا يخفى ما فيه وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يجعلون له عديلا أي شريكا فهو كقوله تعالى: هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: ١٠٠] وقيل:
يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عز وجل، وقيل: يَعْدِلُونَ بعبادتهم عنه تعالى، والجملة عطف على لا يُؤْمِنُونَ والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بالآيات والكفر بالآخرة والإشراك بربهم عز وجل لكن لا على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها، وقيل: الجملة في موضع الحال من

صفحة رقم 296

ضمير لا يُؤْمِنُونَ قُلْ تَعالَوْا أمر له صلّى الله عليه وسلّم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا، ويحتمل هنا- كما قيل- أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم تراقوا إلى ذروة العلم وقمة العز.
وقوله سبحانه: أَتْلُ جواب الأمر أي إن تأتوني أتل، و «ما في» قوله تعالى: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه، والمراد الآية الدالة عليه، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم، والجملة مفعول «أتل» لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه.
والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم، وقوله تعالى: عَلَيْكُمْ متعلق على كل حال بحرم، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي من الإشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمفعولية وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب أَلَّا. وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر وَبِالْوالِدَيْنِ أي أحسنوا بهما إِحْساناً كاملا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عز وجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان. وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بالوأد مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: ٣١] وقيل: الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه: مِنْ إِمْلاقٍ من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عز وجل نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل: «نحن نرزقهم وإياكم» وهو كلام حسن.
وأيا ما كان فجملة نَحْنُ إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه: ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وروي ذلك عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، وقيل:
المراد بها المعاصي كلها.
وفي المراد- بما ظهر منها وما بطن- على هذا أقول تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة. ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات، ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن

صفحة رقم 297

القتل مطلقا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات.
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل: «ذاك وأد خفي»
وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها. وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها، وذلك كما ورد في الخبر بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا إلا قتلا كائنا وهو القتل بأحد المذكورات ذلِكُمْ أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية وَصَّاكُمْ بِهِ أي طلبه منكم طلبا مؤكدا، والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه. وقال الإمام: جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره، وقيل: المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل: احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: ٦] والأشد- على ما قال الفراء- جمع لا واحد له. وقال بعض البصريين: هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما. وقيل: هو جمع شدة كنعمة وأنعم، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح.
وقال ابن الأنباري: إنه جمع شد بضم الشين كود وأود. وقيل: جمع شد بفتحها. وأيا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. ومنه قول عنترة:

عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم
والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي. وجماعة بلوغ الحلم. وقيل: أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وقال السدي: أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: ٦] وقيل: غير ذلك. وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر وَأَوْفُوا
أي أتموا الْكَيْلَ
أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول وَالْمِيزانَ
كذلك- كما قال أبو البقاء- وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان بِالْقِسْطِ
أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير أَوْفُوا
أي مقسطين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالا من المفعول أي تاما. ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد.
وفي التفسير الكبير فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا: أمر الله تعالى المعطى بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر.
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء

صفحة رقم 298

الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل:
عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل: جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق وَإِذا قُلْتُمْ
قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما فَاعْدِلُوا
فيه وقولوا الحق وَلَوْ كانَ
المقول له أو عليه ذا قُرْبى
أي صاحب قرابة منكم وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. والجار والمجرور متعلق بما بعده، وتقديمه للاعتناء بشأنه ذلِكُمْ
أي ما فصل من التكاليف الجليلة وَصَّاكُمْ بِهِ
أمركم به أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «تذكرون» بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد.
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وهذه بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك. وقتل الأولاد. وقربان الزنا، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم. وإيفاء الكيل. والعدل في القول. والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان قاله القطب الرازي: ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول؟ قلت: أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.
وقال الإمام: السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى. ويمكن أن يقال: إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأخر فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي فيكون الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر.
وَأَنَّ هذا صِراطِي إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي، وقيل: إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.
وقرأ حمزة والكسائي «إن» بالكسر. وابن عامر. ويعقوب بالفتح والتخفيف، والباقون به مشددة.
وقرأ ابن عامر «صراطي» بفتح الياء، وقرىء وهذا صِراطِي. «وهذا صراط ربكم» وَهذا صِراطُ رَبِّكَ [الأنعام: ١٢٦] وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه، ونصبه على الحال فَاتَّبِعُوهُ أي اقتفوا أثره واعملوا به وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية، وأخرج ابن المنذر، وعبد ابن حميد، وغيرهما عن مجاهد

صفحة رقم 299

أنها البدع والشبهات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه عَنْ سَبِيلِهِ أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام، وقيل: هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيل الله تعالى،
وقد أخرج أحمد.
وجماعة عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال «هذا سبيل الله تعالى مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبيل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ إلخ،
وإنما أضيف إليه صلّى الله عليه وسلّم أولا لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عز وجل ذلِكُمْ إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه. قال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويا لها من وصية ما أعظم شأنها، وأوضح برهانها.
وأخرج الترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:
من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعالَوْا إلى تَتَّقُونَ
وأخرج ابن حميد، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث»
ثم تلاهنّ إلى آخرهن ثم قال «فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه».
وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال: سمع كعب رجلا يقرأ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلخ فقال:
والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
هذا وأن في قوله سبحانه أَلَّا تُشْرِكُوا يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية قال العلامة الثاني: وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرم بدلا من ما أو عائده المحذوف. وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على لا تشركوا وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرما فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام وإن جعلت أن مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان، أحدهما عطف أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً على أَلَّا تُشْرِكُوا مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل. وثانيهما عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بيانا لتلاوة المحرمات بل الواجبات، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه، ولا سبيل حينئذ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت.
وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه: وَأَنَّ هذا صِراطِي ليس عطفا على أَلَّا تُشْرِكُوا بل

صفحة رقم 300

هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام، وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.
فإن قيل: فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لا تشركوا ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا: ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع في الكلام مثل وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فإن أبيت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقا بمحذوف والمذكور بالفاء عطفا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه.
وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل: اتلوا ما حرم أن لا تسيؤوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف، وأما جعل الوقف على قوله تعالى: رَبُّكُمْ وانتصاب أَلَّا تُشْرِكُوا بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي. وقال أبو حيان: لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فإنه لا يصح عطف «وبالوالدين إحسانا» على «تعالوا» ويكون ما بعده عطف عليه.
واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ثم قال: وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ان التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه: أَتْلُ ما حَرَّمَ أمرهم أولا بأمر ترتب عليه ذكر مناه، ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم أن التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا اتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما، ويجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرئ القيس:
لا تهلك أسى وتجمل ولا نعلم في هذا خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا مشهورا اه. وأنت تعلم أن العطف على تَعالَوْا في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن، ونقل الطبرسي جواز كون أَلَّا تُشْرِكُوا بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك ثُمَّ آتَيْنا إلخ. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس سره، وقيل: عطف على ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة

صفحة رقم 301

كأنه قيل: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام، وقيل: عطف على قُلْ وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب.
وعن أبي مسلم، واستحسنه المغربي، أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن.
وثم- كما قال الفراء- للترتيب الإخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب. وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلا بد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله: أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة، وبعضهم وجه الترتيب الإخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد. وقيل: إنه باعتبار توسط جملة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بين المتعاطفين.
وقال بعضهم: إن ثُمَّ هنا بمعنى الواو، وقد جاء ذلك كثيرا في الكتاب تَماماً للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماما، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا لقول آتَيْنا من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل: أتممنا النعمة إتماما فهو كنباتا في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وأن يكون حالا من الكتاب أي تاما عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي من أحسن القيام به كائنا من كان فالذي للجنس. ويؤيده قراءة عبد الله «على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين». وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله:

إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم. وعن ابن زيد أن المراد تماما على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وظاهره أن الَّذِي موصول حرفي، وقد قيل به في قوله تعالى:
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: ٦٩] وضمير أحسن حينئذ لله تعالى، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها، وكلاهما خلاف الظاهر. وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه السلام، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيم عليه السلام.
وقرأ يحيى بن يعمر «أحسن» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والَّذِي وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تاما كاملا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن.
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي بيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافا لمن زعم ذلك، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة [يوسف: ١١١] عليه السلام: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا وَهُدىً أي دلالة إلى الحق وَرَحْمَةً بالمكلفين. والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية

صفحة رقم 302

والمصدرية والحالية والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وإيتاء الكتاب، ولا يجوز عود الضمير على الذي بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه: بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بل كان المناسب حينئذ أن يقال: لعلهم يرحمون مثلا، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل، والمراد من اللقاء قيل الجزاء، وقيل: الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا. وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
وَهذا الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن كِتابٌ عظيم الشأن لا يقادر قدره أَنْزَلْناهُ بواسطة الروح الأمين مشتملا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها، والجملة صفة كِتابٌ وقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الخير دينا ودنيا صفة أخرى، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضا والفاء في قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره وَاتَّقُوا مخالفته أو نواهيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لترحموا جزاء ذلك، وقيل: المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى.
أَنْ تَقُولُوا علة لمقدر دل عليه أَنْزَلْناهُ المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافا للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا. وقيل: يحتمل أن يكون مفعول اتَّقُوا وعليه الفراء، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخا لهم على بعدهم عن السعادة، والمتبادر ما ذكر أولا أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ الناطق بالأحكام القاطع للحجة عَلى طائِفَتَيْنِ جماعتين كائنتين مِنْ قَبْلِنا وهما- كما قال ابن عباس، وغيره: اليهود، والنصارى. وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.
وَإِنْ كُنَّا إن هي المخففة من أن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر، لا ثابت ولا محذوف أي وانه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ أي قراءتهم لَغافِلِينَ غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكننا أن نتلقى منها ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد، وقيل: تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا إلخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار. وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال:
وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.
أَوْ تَقُولُوا عطف على تَقُولُوا. وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب «فاتبعوه واتقوا» ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتا أيضا ولا يخفى موقعه. قال القطب: إنه تعالى خاطبهم أولا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو

صفحة رقم 303

التفات في غاية الحسن لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما أنزل عليهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانا وأثقب فهما فَقَدْ جاءَكُمْ متعلق بمحذوف تنبىء عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم إلخ أو إن صدقتم فيما تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم بَيِّنَةٌ حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة مِنْ رَبِّكُمْ على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة بَيِّنَةٌ ويصح تعلقه بجاءكم.
وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع وَهُدىً وَرَحْمَةٌ عطف على بَيِّنَةٌ وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم، والمراد بجميع ذلك القرآن، وعبر عنه بالبينة أولا إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة. ثانيا تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة وفي التفسير الكبير فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير؟ قلنا: القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف ولا يخفى ما فيه.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلا للأمر. وقرىء «كذب» بالتخفيف، والجار الأول متعلق بما عنده، والثاني يحتمل ذلك وهو الظاهر.
ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى وَصَدَفَ عَنْها أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال، والفعل على الأول لازم وعلى الثاني متعد وهو الأكثر استعمالا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وعيد لهم ببيان جزاء إعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السيء الشديد بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف على التجدد والاستمرار، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له هَلْ يَنْظُرُونَ استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار، وهَلْ للاستفهام الإنكاري، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال: إنها للتقرير في الإثبات، والجمهور على الأول، والضمير لكفار أهل مكة.
وزعم الجبائي أنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود: وقتادة، ومقاتل، وقيل: إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل، وقيل: المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث، وحاصل ذلك

صفحة رقم 304

أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد، وأين التراب من رب الأرباب.
وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل. والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة،
وصح من طرق عن حذيفة بن أسيد قال: «أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علية ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدجال، وعيسى ابن مريم، ويأجوج وماجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا»
وببعضها على ما قيل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضا في قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ وروى مسلم، وأحمد، والترمذي، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعا ما هو صريح في ذلك. واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه السلام بعد الدجال عليه اللعنة وهو عليه السلام يدعو الناس إلى الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر. والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده: طلوع الشمس من مغربها.
فقد روى الشيخان «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية»
بل قد روي هذا التعيين عنه صلّى الله عليه وسلّم في غير ما خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لا يخفى على المتأمل، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه.
وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه. وقول العراقي: إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها: ارجعي من مطلعك، والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قبل. وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير.
وروى البخاري في تاريخه، وأبو الشيخ، وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها، وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون: إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار. وقال الكرماني: إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع في ذلك أيضا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا انتهى. وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول: قال في

صفحة رقم 305

التذكرة وشرحها للسيد السند: الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئا واحدا بل كان مما وجده القدماء أكثر ما وجده المحدثون، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءا ونصف جزء.
ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقا يجب أن يثبت فلكا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك أما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قبل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها، وعلى التقديرات الخمس الأول يتبادل نصفا سطح البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئا واحدا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة، وعلى التقدير الثاني لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لا جزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصا.
ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشئ عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك، وليس صيرورة المشرق مغربا والمغرب مشرقا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلا، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر. والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والبعض

صفحة رقم 306

الآخر إلى بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه.
وقيل: المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: ٢١] وبقولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: ٩٢] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: ٩٢] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم، وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إن صح الحديث فهو مذهبي، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف. وتنكير نَفْساً للتعميم. وجملة «لم تكن آمنت» في موضع النصب صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل، وجوز كونها استئنافية و «يوم» منصوب بلا ينفع. وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنما هو عند وقوعها جواب القسم.
وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي. وقرىء «يوم» بالرفع على الابتداء.
والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه. وقرأ أبو العالية. وابن سيرين «لا تنفع» بالتاء الفوقانية، وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه لكونه شبيها بما يستغنى عنه، وقال أبو حيان: إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة.
وقوله سبحانه: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمَنَتْ والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة. والمعتزلة يقولون: إن الترديد بين النفيين، والمراد نفي العموم لا عموم النفي.
والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا. وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه. ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغي ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام أيضا.
وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال: لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما

صفحة رقم 307

في ضمن التحذير من تركهما ولا سبيل إلى أن يقال: كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل. وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كما وكيفا.
ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا إرشادا إلى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة عن أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة. ثم قال: ولك أن تقول: المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله سبحانه: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: ٣٠، ٣١] تسجيلا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧] انتهى.
وقيل في دفع اللغوية غير ذلك، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل: لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام، وقال مولانا ابن الكمال: إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة لا تنفع بالتاء وبكسب الخير الإذعان ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر، ولو سلم فنقول: الإيمان النافع لا بد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه: آمَنَتْ وعن الثاني بقوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى.
ولا يخفى عليك أن الألفاظ المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرينة، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي إن هذا الحكم- أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه- مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أن لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل، ولا يلزم من عدم نفع ما حدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه. ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في

صفحة رقم 308

ذلك اليوم به أيضا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالاتفاق. ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصا في الحكم والمحكوم به فتأمل، وبأن له أيضا صرف قوله سبحانه: كَسَبَتْ عن أن يكون معطوفا على آمَنَتْ إلى عطفه إلى لَمْ تَكُنْ لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الإيمان في لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب أَنْ أو بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة: فو الله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي- والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٢]. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] في رأي. وقول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعا، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيّا والتي، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد الخير ولو واحدا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم.
قُلِ لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد انْتَظِرُوا ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور إِنَّا مُنْتَظِرُونَ لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون، وقيل: في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بمعاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ استئناف لسان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين بناء على ما روي عن ابن عباس وقتادة أن الآية نزلت في اليهود والنصارى أي بددوا دينهم وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وحمزة، والكسائي «فارقوا»
بالألف أي باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض آخر منه ترك الكل أو مفارقة له وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا تشيع كل فرقة إماما وتتبعه أو تقويه وتظهر أمره.
أخرج أبو داود.
والترمذي وصححه. وابن ماجة. وابن حبان وصححه الحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة»
واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم. ومن

صفحة رقم 309

غريب ما وقع أن بعض متعصبي الشيعة الإمامية من أهل زماننا واسمه حمد روى بدل إلا واحدة في هذا الخبر إلا فرقة وقال: إن فيه إشارة إلى نجاة الشيعة فإن عدد لفظ فرقة بالجمل وعدد لفظ شيعة سواء فكأنه قال عليه الصلاة والسلام:
إلا شيعة، والمشهور بهذا العنوان هم الشيعة الإمامية فقلت له بعد عدة تزييفات لكلامه: يلزم هذا النوع من الإشارة أن تكون كلبا لأن عدد كلب وعدد حمد سواء فألقم الكلب حجرا.
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي من السؤال عنهم والبحث عن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم، وقيل:
يحتمل أن يكون هذا وعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعصمة عنهم أي لست منهم في شيء من الضرر، وعن السدي أنه نهى عن التعرض لقتالهم ثم نسخ بما في سورة براءة، ومِنْهُمْ في موضع الحال لأنه صفة نكرة قدمت عليها إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وآخرتهم ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة، وقيل: المفرقون أهل البدع من هذه الأمة،
فقد أخرج الحكيم الترمذي، وابن جرير، والطبراني، والشيرازي في الألقاب، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا إلخ «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة».
وأخرج الترمذي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليس لهم توبة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء فإنهم ليس لهم توبة وأنا منهم بريء وهم مني برآء»
فيكون الكلام استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين إشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد، ولعل جملة إِنَّما أَمْرُهُمْ إلخ على هذا ليست للتعليل وإنما هي للوعيد على ما فعلوا أي إن رجوعهم إليه سبحانه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يوم القيامة بِما كانُوا يَفْعَلُونَ في الدنيا على الاستمرار بالعقاب عليه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم أي من جاء من المؤمنين بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة أي خصلة كانت، وقيل: التوحيد ونسب إلى الحسن وليس بالحسن فَلَهُ عَشْرُ حسنات أَمْثالِها فضلا من الله تعالى.
وقرأ يعقوب «عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع على الوصف، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بالعشر الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة. وأبو الشيخ عن ابن عباس، وعبد بن حميد، وغيره عن ابن عمر أن الآية نزلت في الأعراب خاصة، وأما المهاجرون فالحسنة مضاعفة لهم بسبعمائة ضعف، والظاهر العموم.
وتجريد عَشْرُ من التاء لكون المعدود مؤنثا كما أشرنا إليه لكنه حذف وأقيمت صفته مقامه، وقيل: إنه المذكور إلا أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ كائنا من كان من العالمين فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها بحكم الوعد واحدة بواحدة، وإيجاب كفر ساعة عقاب الأبد لأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ذلك منه تعالى لا يعد ظلما إذ له سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي، وقيل: المعنى لا ينقصون في الحسنات من عشر أمثالها وفي السيئة من مثلها في مقام الجزاء.
ومن المعتزلة من استدل بهذه الآية على إثبات الحسن والقبح العقليين، واختلف في تقريره فقيل: إنهم لما رأوا

صفحة رقم 310

أن أحد أدلة الأشاعرة على النفي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله كما بين في محله فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليه قالوا: إن قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلخ صريح في أن العبد مستبد مختار في فعله الحسن والقبيح، وإذا ثبت ذلك يثبت الحسن والقبح العقليان. وأجيب عنه بأن الآية لا تدل على استبداد العبد غاية ما فيها أنها تدل على المباشرة وهم لا ينكرونها، وقيل: إن الآية دلت على أن لله تعالى فعلا حسنا ولو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة أو مأذونا فيها لما كان فعل الله تعالى حسنا إذ هو غير مأمور ولا مأذون، وأيضا لو تقوف معرفة الحسن والقبح على ورود الشرع لما كانت أفعاله تعالى حسنة قبل الورود وهو خروج عن الدين.
وأجيب أما عن الأول فبأنا لا ندعي أنه لا حسن إلا ما أمر به أو أذن في فعله حتى يقال: يلزم أن تكون أفعال الله تعالى غير حسنة إذ يستحيل أن يكون مأمورا بها أو مأذونا فيها بل ما أمر الشارع بفعله أو أذن فيه فهو حسن ولا ينعكس كنفسه بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقة الغرض أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله، وبهذا الاعتبار كان فعل الله تعالى حسنا سواء وافق الغرض أو خالف، وأما عن الثاني فبأن الحسن والقبح وإن فسرا بورود الشرع بالمنع والإطلاق لكن لا نسلم أنه لا حسن ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ذلك بل الحسن والقبح أعم مما ذكر كما عرف في موضعه، ولا يلزم من تحقق معنى الحسن والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال، ولا يخفى على المطلع أن قولهم: لو كان حسن الأفعال إلخ. وقولهم: لو توقف معرفة الحسن والقبح إلخ شبهتان مستقلتان من شبه عشر إلزامية ذكرها الآمدي في إبكار الأفكار وأن كلا من التقريرين السابقين لا يخلو عن بعد نظر فتدبر.
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية، وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة: أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى الحق.
وقوله سبحانه: دِيناً بدل من محل صِراطٍ إذ المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى: «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور. وقوله سبحانه: قِيَماً مصدر كالصغر والكبر نعت به مبالغة. وجوز أن يكون التقدير ذا قيم، والقياس قوما كعوض وحول فاعل تبعا لإعلال فعله أعني قام كالقيام. وقرأ كثير «قيما» وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد- وهو على ما قيل- أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة، وقيل:
أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه، ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير، وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد، وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر، وقيل: المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من إبراهيم، وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه. والعامل في هذه الحال هو العامل في المضاف. وقيل: معنى الإضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر، وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها.
وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما عليه المبطلون، وقيل: عطف على ما تقدم. وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة

صفحة رقم 311

والسلام من أهل مكة القائلين: الملائكة بنات الله واليهود القائلين: عزير ابن الله والنصارى القائلين: عيسى ابن الله قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها. وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء، وقيل: لأن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها وَنُسُكِي أي عبادتي كلها كما قال الزجاج، والجبائي، وهو من عطف العام على الخاص. وعن سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة. وعن قتادة الأضحية، وجمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: ٢] على المشهور. وقيل: المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان والعمل الصالح.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهر والأول هو المناسب لقوله تعالى: لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر. وقيل: المراد به نظرا لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكا وقدرة لا شَرِيكَ لَهُ أي في عبادتي أو فيها وفي الإحياء والإماتة. وقرأ نافع «محياي» بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف، وفي رواية أنه كسر الياء، وعلى الرواية الأولى إنما جاز التقاء الساكنين لنية الوقف وفيه يجوز ذلك فطعن بعضهم في ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين وهو لا يجوز ليس في محله، وقد روى هذه القراءة عن نافع جماعة، وما قيل: إنه رجع عنها وأنه لا يحل لأحد نقلها عنه ليس بشيء.
وَبِذلِكَ أي القول أو الإخلاص أُمِرْتُ لا بشيء غيره وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أو المنقادين إلى امتثال ما أمر الله تعالى به، وقيل: المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره، والمراد مسلمي أمته كما قيل، وهذا شأن كل نبي بالنسبة إلى أمته، وقيل: هذا إشارة إلى
قوله عليه الصلاة والسلام «أول ما خلق الله تعالى نوري»
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا إنكار لبغية غيره تعالى ربا لا لبغية الرب ولهذا قدم المفعول، وليس التقديم للاختصاص إذ المقصود أغير الله أطلب ربا وأجعله شريكا له، وعلى تقدير الاختصاص لا يكون إشراكا للغير بل توحيد، وقال بعض المحققين: لا يبعد أن يقال التقديم للاختصاص. وذكر في رد دعوته إلى الغير رد الاختصاص تنبيها على أن إشراك الغير بغية غير الله تعالى إذ لا بغية له سبحانه إلا بتوحيده عز وجل، وما في النظم الكريم أبلغ من أغير الله أعبد ونحوه كما لا يخفى وَهُوَ سبحانه رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ جملة حالية مؤكدة للإنكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب فكيف يتصور أن يكون شريكا له وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يروى أنهم كانوا يقولون للمسلمين: «اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم» فرد عليهم بما ذكر أي إن ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها حتى يصح قولكم، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى تأكيدا لما قبله، وقيل: إن قولهم ذلك يحتمل معنيين: الأول، اتبعوا سبيلنا وليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم. والثاني اتبعوا لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا.
وقوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ إلخ رد له بالمعنى الأول، وقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ إلخ رد له بالمعنى الثاني، وقيل: إن جواب قولهم هو الثاني، وأن الأول من جملة الجواب عن دعواهم إلى عبادة آلهتهم يعني لو أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه لم أكن معذورا بأنكم سبقتموني إليه وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله تعالى لأن كسب كل أحد وعمله عائد عليه، ورجحه بعضهم على الأول بأن التأسيس خير من التأكيد ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ببيان الرشد من الغي وتمييز الحي من اللي.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة

صفحة رقم 312

ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر، وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها- كما قيل- والخطاب عليهما عام، وقيل: الخطاب لهذه الأمة، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ماذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه إِنَّ رَبَّكَ تجريد الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلّى الله عليه وسلّم سَرِيعُ الْعِقابِ أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات.
وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي.
وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه
في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الإنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام.
ومن باب الإشارة في الآيات: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده لَوْ شاءَ اللَّهُ تعالى ما أَشْرَكْنا به سبحانه شيئا وَلا أشرك آباؤُنا من قبلنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهم السلام كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقالوا مثل قولهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فتخرجوه لنا بالبيان إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ لأنكم محجوبون في مقام النفس قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك.
وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم وَبِالْوالِدَيْنِ أي الروح والقلب أحسنوا إِحْساناً برعاية حقوقهما وَلا تَقْتُلُوا أي تهلكوا أَوْلادَكُمْ قواكم باستعمالها في غير ما هي له مِنْ إِمْلاقٍ أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم إلينا وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ الأعمال الشنيعة ما ظَهَرَ مِنْها كأفعال الجوارح وَما بَطَنَ كأفعال القلب وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تعالى قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
وهي التصديق بذلك إجمالا وعدم إنكاره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
فيقوى على قبول أنواع التجليات، وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم.

صفحة رقم 313

ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
أي كيل الشرع بمراعاة الحقوق الظاهرة وَالْمِيزانَ
أي ميزان الحقيقة بمراعاة الحقوق الباطنة بِالْقِسْطِ
بالعدل وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
أي لا تقولوا إلا الحق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
وهو التوحيد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً غير مائل إلى اليمين والشمال فَاتَّبِعُوهُ لتصلوا إلى الله تعالى ولا تتبعوا السبل التي وصفها أهل الاحتجاب «فتفرق بكم عن سبيله» فتضلوا ولا تصلوا إليه سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لتوفي أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو الكشف عن ساق يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو الكشف المذكور لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حينئذ لانقطاع التكليف.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي جعلوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس وَكانُوا شِيَعاً فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ في جزاء تفرقهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من السيئات واتباع الهوى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة، وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذ كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير إليه النصوص قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريق التوحيد الذاتي دِيناً قِيَماً ثابتا لا تنسخه الملل والنحل مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي أعرض بها عن السوي حَنِيفاً مائلا عن كل دين فيه شرك قُلْ إِنَّ صَلاتِي حضوري وشهودي بالروح وَنُسُكِي تقربي بالقلب وَمَحْيايَ بالحق وَمَماتِي بالنفس لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا نصيب لأحد مني في ذلك لا شَرِيكَ لَهُ في شيء أصلا إذ لا وجود سواه وَبِذلِكَ الإخلاص وعدم رؤية الغير أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ المنقادين للفناء فيه سبحانه قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فاطلب مستحيلا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عليها إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ بأن جعلكم له مظهر أسمائه ورفع بعضكم فوق بعض درجات في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه وبمن لا يقوم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لم يراع وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن يراعي ذلك، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه. (١)

(١) في اصل المؤلف رحمه الله تعالى من الجزء الثاني من تقسيمه دعاء لسلطان وقته وزمانه فحذفناه لعدم الحاجة اليه الآن واسأل الله تعالى ان يقوي شوكة المسلمين وان يوفقهم للعمل بالشرع ويهديهم.

صفحة رقم 314

سورة الأعراف
أخرج أبو الشيخ، وابن حبان، عن قتادة قال: هي مكية إلا آية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف: ١٦٣]، وقال غيره: إن هذا إلى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الأعراف: ١٧٢] مدني: وأخرج غير واحد عن ابن عباس. وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا، وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي- فالمص.
وبدأكم تعودون- كوفي ومُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: ٢٩] بصري شامي وضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:
٣٨] والْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الأعراف: ١٣٧] مدني وكلها محكم، وقيل: إلا موضعين، الأول وَأُمْلِي لَهُمْ [الأعراف: ١٨٣] فإنه نسخ بآية السيف والثاني خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: ١٩٩] فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد، وادعى أيضا أن وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: ١٩٩] كذلك وفيما ذكر نظر، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: ٢] وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: ٦، ص: ٣] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام:
١٦٥] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة، وقال سبحانه في قصة عاد: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: ٦٩] وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الأعراف: ٧٤] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: ١٢] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: ١٥٦] إلخ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٥] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام: ١٠٨] قال جل شأنه في مفتتح هذه: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: ٦] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام:
١٦٠] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ

صفحة رقم 315
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية