الِاعْتِبَارَاتِ كَمَا أَنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ ذَبْحَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ إِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ ذَكَرًا وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ ذَكَرٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ أُنْثَى وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ أُنْثَى وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ لَازِمًا عَلَيْنَا فَكَذَا هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهًا صَحِيحًا فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ فَلَا يَجُوزُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ وَلَا تَعْرِفُونَ شَرِيعَةَ شَارِعٍ فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ بِأَنَّ هَذَا يَحِلُّ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ؟ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ حُكْمَهُمْ بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ مَخْصُوصٌ بِالْإِبِلِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ النِّعَمَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمَّا لَمْ تَحْكُمُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ فَكَيْفَ خَصَصْتُمُ الْإِبِلَ بِهَذَا الْحُكْمِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا وَالْمُرَادُ هَلْ شَاهَدْتُمُ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِرَسُولٍ؟ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّكُمْ لَا تَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ تُثْبِتُونَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَلِفَةَ؟ وَلَمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَيَّرَ شَرِيعَةَ إِسْمَاعِيلَ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى كُلِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الْحُكْمِ عَامَّةٌ/ فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي تَحْرِيمِ مُبَاحٍ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى. اللَّهِ الْكَذِبَ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَبَاحِثِ الْمَعَادِ كَانَ وَعِيدُهُ أَشَدَّ وَأَشَقَّ: قَالَ الْقَاضِي: وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ عَنِ الدِّينِ مَذْمُومٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَمَّ الْإِضْلَالَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ فَالَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَوْلَى بِالذَّمِّ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَذْمُومًا مِنَّا كَانَ مَذْمُومًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَتَسْلِيطَ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِمْ وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْفُجُورِ مَذْمُومٌ مِنَّا وَغَيْرُ مَذْمُومٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَا هَاهُنَا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَالَ القاضي: لا يهديهم الا ثَوَابِهِ وَإِلَى زِيَادَاتِ الْهُدَى الَّتِي يَخْتَصُّ الْمُهْتَدِيَ بِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَا يَنْقُلُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ أَحْدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ معلوم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ أَتْبَعَهُ بِالْبَيَانِ الصَّحِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ أَوِ النَّفْسُ أَوِ الْجُثَّةُ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ مَيْتَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى إِلَّا أَنْ تَقَعَ مَيْتَةٌ أَوْ تَحْدُثَ مَيْتَةٌ وَالْبَاقُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَيْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ مَيْتَةً أَوْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مَيْتَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْوَحْيِ قَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أَيْ عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ وَذَكَرَ هَذَا لِيُظْهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ بَيَانُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا: الْمَيِّتَةُ وَثَانِيهَا: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَثَالِثُهَا: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَرَابِعُهَا: الْفِسْقُ وَهُوَ الَّذِي أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ:
إِنِّي لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ كَانَ هَذَا مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ أَنَّهُ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ أَكَدَّ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٥] وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَقَدْ حَصَلَتْ لَنَا آيَتَانِ مَكِّيَّتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَالَ:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: ١٧٣] وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَدَنِيَّةُ مُطَابِقَةً لِتِلْكَ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَكَلِمَةُ إِنَّما فِي الْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا كَذَا وَكَذَا فِي الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَةِ: ١] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة: ٣] وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَقْسَامُ الْمَيْتَةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ عَلَيْهَا بِالتَّحْلِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا/ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْحَصْرِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَلْزَمُكُمْ فِي الْتِزَامِ هَذَا الْحَصْرِ تَحْلِيلُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا تَحْلِيلُ الْخَمْرِ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُكُمْ تَحْلِيلُ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِتَحْرِيمِهَا.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّجَاسَةَ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَجِسٍ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ كَانَ السُّؤَالُ سَاقِطًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الْخَبَائِثِ وَالنَّجَاسَاتُ خَبَائِثُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى حُرْمَةِ تَنَاوُلِ النَّجَاسَاتِ فَهَبْ أَنَّا الْتَزَمْنَا تَخْصِيصَ هَذِهِ السُّورَةِ بِدَلَالَةِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا سِوَاهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ وَالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ كَامِلٌ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهَا نَجِسَةٌ فَيَكُونُ مِنَ الرِّجْسِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: رِجْسٌ وَتَحْتَ قَوْلِهِ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَأَيْضًا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ دِينِ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحريمه وبقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: ٩٠] وَبِقَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَةِ: ٢١٩] وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ فَتَبْقَى هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا عَدَاهَا حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَلْزَمُ تَحْلِيلُ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهَا مَيْتَاتٌ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا نَخُصُّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً دَخَلَتْ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَيْتَةً فَنُخَصِّصُهَا بِتِلْكَ الْآيَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَا وجهها؟
أجابوا عنه من وجه: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى لَا أَجِدُ مُحَرَّمًا مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُهُ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمٌ غَيْرَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ وُجِدَتْ مُحَرَّمَاتٌ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَيَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً مَا كَانَ يُحَرِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وغيرها إذا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا كَانَتِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ دَاخِلَةً تَحْتَهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً لَمَا حَسُنَ اسْتِثْنَاؤُهَا وَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرُوهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَصَّصَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَتَحْلِيلُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْلِيلِ غَيْرِهَا فَوَجَبَ إِبْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا لِأَنَّ تَخْصِيصَهَا يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِعُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في سورة البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ [البقرة: ١٧٣] وذكره هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ فَسَقَطَ هَذَا الْعُذْرُ.
وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ.
فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: ١٧٣] آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَكَلِمَةُ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَلَّ
هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لَيْسَ إِلَّا حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حَصْرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ كان هذا اعترافا يحل مَا سِوَاهَا فَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ خَامِسٍ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ احْتِمَالُ طَرَيَانِ النَّاسِخِ مُعَادِلًا لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ فِي إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا إِلَّا أَنَّهُ زَالَ وَلَمَّا اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ وَالذَّاهِبَ إِلَيْهِ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ.
وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بَلْ هُوَ صَرِيحُ النَّسْخِ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ مُبَالَغَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَكَذَا وَكَذَا تَصْرِيحٌ بِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يَكُونُ دَفْعًا لِهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ بِمَكَّةَ/ وَفِي آخِرِهَا بِالْمَدِينَةِ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الرَّابِعُ: فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا كَانَ وَحْيًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَحْيُ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ يُزِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قُوَّةُ هَذَا الْكَلَامِ وَصِحَّةُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنَ السُّؤَالَاتِ الضَّعِيفَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا
نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ» وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَسَيِّدُ الْعَرَبِ بَلْ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لما رآهم يأكلون الضب وقال: «يَعَافُهُ طَبْعِي»
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاسْتِقْذَارَ مَا صَارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَقْذِرُهَا قَوْمٌ وَيَسْتَطِيبُهَا آخَرُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِقْذَارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا النَّصِّ الْقَاطِعِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ مُعَيَّنٌ وَلَا قَانُونٌ مَعْلُومٌ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ: فَأَوَّلُهَا: الْمَيْتَةُ وَدَخَلَهَا التَّخْصِيصُ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ»
وَثَانِيهَا: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَالسَّفْحُ الصَّبُّ يُقَالُ: سَفَحَ الدَّمَ سَفْحًا وَسَفَحَ هُوَ سُفُوحًا إِذَا سَالَ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِكُثَيِّرٍ:
أَقُولُ وَدَمْعِي وَاكِفٌ عِنْدَ رَسْمِهَا | عَلَيْكِ سَلَامُ اللَّهِ وَالدَّمْعُ يَسْفَحُ |
قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فَسُمِّيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ- فِسْقًا- لِتَوَغُّلِهِ فِي بَابِ الْفِسْقِ كَمَا يُقَالُ:
فُلَانٌ كَرَمٌ وَجُودٌ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِيهِمَا وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الانعام: ١٢١].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ.
أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بَيَّنَ أَنْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَزُولُ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدِ اسْتَقْصَيْنَا تَفْسِيرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّخْصَةِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ أَشْيَاءَ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الظُّفُرِ لُغَاتٌ ظُفُرٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهُوَ أَعْلَاهَا وَظُفْرٌ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَظِفْرٌ بِكَسْرِ الظَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَظِفِرٌ بِكَسْرِهِمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي السَّمَّالِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي كُلِّ ذِي ظُفُرٍ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْإِبِلُ فَقَطْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْإِبِلُ وَالنَّعَامَةُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: إِنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكُلُّ ذي حافر من الدواب. ثم قال: ذلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَقَالَ:
وَسُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَأَقُولُ: أَمَّا حَمْلُ الظُّفُرِ عَلَى الْحَافِرِ فَبَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَافِرَ لَا يَكَادُ يُسَمَّى ظُفُرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَهُ حَافِرٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ والبقر مباحان لهم من لحصول الْحَافِرِ لَهُمَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ حمل الظفر على المخالب والبراثن لان المخاطب آلَاتُ الْجَوَارِحِ فِي الِاصْطِيَادِ وَالْبَرَاثِنَ آلَاتُ السِّبَاعِ فِي الِاصْطِيَادِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تَصْطَادُ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ.
بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فَائِدَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ وَذَوِي الْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارَتْ هذه الآية دالة على هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: ما
روي انه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ
ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:
يَقْوَى قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ شُحُومَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى عَنْ هَذَا التَّحْرِيمِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ فَإِنِّي لَمْ أُحَرِّمْهُ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ وَالْجَنْبِ/ مِنْ دَاخِلِ بُطُونِهَا وَأَقُولُ لَيْسَ عَلَى الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ شَحْمٌ إِلَّا اللَّحْمُ الْأَبْيَضُ السَّمِينُ الْمُلْتَصِقُ بِاللَّحْمِ الْأَحْمَرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فذلك اللحم