آيات من القرآن الكريم

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ

عليهم: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وهو دليل على أنهم كذبوا، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل.
المطعوم المحرّم على المسلمين والمحرّم على اليهود
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
الإعراب:
طاعِمٍ اسم فاعل من طعم يطعم، وأكثر ما يجيء اسم الفاعل من فعل يفعل إذا كان لازما على فعل، ويجيء على فاعل إذا كان متعدّيا كعلم يعلم فهو عالم. ويَطْعَمُهُ مضارع طعم. مَيْتَةً خبر يَكُونَ، واسمها ضمير مستتر، وتقديره: إلا أن يكون المأكول ميتة، ومن قرأ بالرّفع جعل يَكُونَ تامّة، ومَيْتَةً فاعل مرفوع بها، ولا تفتقر إلى خبر.
أَوِ الْحَوايا إما مرفوع عطفا على قوله: ظُهُورُهُما، وإما منصوب عطفا على شُحُومَهُما في قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ. وشُحُومَهُما في موضع نصب على الاستثناء من الشحوم، وهو استثناء من موجب، أو منصوب عطفا على قوله: شُحُومَهُما وتقديره: حرّمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ذلِكَ: في موضع نصب، لأنه مفعول ثان لجزيناهم، وتقديره:
جزيناهم ذلك ببغيهم.

صفحة رقم 77

البلاغة:
غَفُورٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة، أي كثير المغفرة والرّحمة.
رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فرّق بين الجملتين، فجعل الأولى جملة اسميّة لأنها أبلغ من الفعليّة، ليناسب وصف الرّحمة، وجعل الثانية فعليّة: وَلا يُرَدُّ لتكون أقل في الإخبار عن وصف العقاب.
المفردات اللغوية:
مُحَرَّماً شيئا محظورا أو ممنوعا. طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أكل يأكله. مَيْتَةً بهيمة ماتت حتف أنفها. أَوْ دَماً مَسْفُوحاً سائلا يجري ويتدفّق من المذبوح، بخلاف غيره كالكبد والطّحال. رِجْسٌ قذر قبيح حرام نجس. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ذبح على غير اسم الله، للأصنام، والإهلال: رفع الصّوت. فَمَنِ اضْطُرَّ أي دعته ضرورة إلى تناول شيء منه كجوع شديد أو عطش شديد أو غصص. غَيْرَ باغٍ أي غير قاصد له. وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة.
الَّذِينَ هادُوا اليهود، لقولهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف ٧/ ١٥٦] أي رجعنا وتبنا. كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنّعام، والظفر للإنسان وغيره مما لا يصيد، والمخلب: لما يصيد. شُحُومَهُما الشّحم: ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من الدّهن. إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي علقت بها. أَوِ الْحَوايا أي حملته الأمعاء، جمع حاوية وحاوياء.
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ منه أي من الشّحم، وهو شحم الألية، فإنه أحل لهم. ذلِكَ التحريم. جَزَيْناهُمْ به. بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ في أخبارنا ومواعيدنا. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما جئت به فَقُلْ لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، وفيه تلطّف بدعوتهم إلى الإيمان. وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عذابه إذا جاء.
سبب النزول: نزول الآية (١٤٥) :
قُلْ: لا أَجِدُ..: أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء، ويستحلّون أشياء، فنزلت: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية.

صفحة رقم 78

المناسبة:
ردّ الله تعالى في الآيات السابقة على المشركين الذين كانوا يحرّمون ويحلّلون من الأنعام بحسب أهوائهم، وأبان أن التّحريم والتّحليل لا يثبت إلا بالوحي، ثم أوضح هنا أنّ المطعومات المحرّمات على الآكلين هي أربعة فقط: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير فإنه رجس، والفسق: وهو الذي أهل به لغير الله.
التفسير والبيان:
بيّن الله تعالى في هذه السّورة المكيّة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة، وأتى بها بصيغة الحصر، مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة، وأكّد ذلك في سورة النّحل فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النّحل ١٦/ ١١٥].
وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، فدلّت آيتان مكيّتان على حصر المحرّمات في هذه الأربعة، وكذلك دلّت آية مدنيّة في سورة البقرة أنه لا محرّم إلا هذه الأربعة، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١٧٣]، وكلمة إِنَّما التي تفيد الحصر مطابقة لقوله: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً.
ثم ذكر الله تعالى في سورة المائدة قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة ٥/ ١]، وأجمع المفسّرون على أن المراد بقوله إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل، وهو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَالْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ، إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وكل هذه الأشياء من أنواع الميتة، وأنه تعالى إنما أعادها بالذّكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتّحليل، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.

صفحة رقم 79

والقصد هو الرّد على مشركي العرب لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات والمحللات إلا بالوحي، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصّلاة والسّلام، ولم ينزل في الموضوع غير هذه الآية ونظائرها، كان هذا مبالغة في بيان انحصار التّحريم في هذه الأربعة فقط.
المعنى: يقول الله تعالى آمرا رسوله: قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما رزقهم الله، افتراء على الله: لا أجد محرّما على آكل يأكله سوى هذه الأمور الأربعة وهي ما يلي:
الميتة:
وهي التي ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي، وذلك يشمل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ونحوها. وتحريمها لمضرّتها، وانحباس الدم فيها، مما يؤدي إلى تسممها، وتفسّخ لحمها، وإيذاء من تناول شيئا منها.
والدّم المسفوح:
أي الدّم المهراق السائل الذي يجري ويتدفق من عروق المذبوح. وهذا يدلّ على أنّ المحرّم من الدّم ما كان سائلا، قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذّبح، فلا يدخل فيه الدّم الجامد كالكبد والطّحال لجمودهما، ولا الدّم المختلط باللحم في المذبح، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدّم، فإن ذلك كله ليس بسائل. وقال عكرمة في قوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً: لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود.
وجاء في الحديث الذي يرويه البيهقي في سننه والحاكم عن ابن عمر: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد- أو السمك والجراد- وأما الدّمان: فالكبد والطحال».
وسبب تحريم الدّم المسفوح: اشتماله على أنواع الجراثيم والميكروبات لأن الدّم بيئة صالحة لتفريخ الميكروبات ومباءة للجراثيم.
ولحم الخنزير:
ومثله شحمه وسائر أجزاء جسده، ومثله أيضا الكلب،

صفحة رقم 80

فكلّ ذلك كالميتة والدّم رجس وقذر، تعافه النفوس الطيبة والطباع السليمة، وهو ضار بالبدن.
واستدلّ الشافعية بقوله تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير، بناء على عود الضمير إليه لأنه أقرب مذكور.
والفسق:
وهو ما أهل لغير الله أي ما ذبح لغير الله ولم يذكر عليه اسم الله، أي ما يتقرب به إلى غير الله تعبّدا، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه، وهو المذبوح على النّصب وعند الأوثان، أو بعد المقاسمة عليه بالأزلام أي القمار.
ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة، فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ.. أي فمن كان في حال ضرورة الجوع الملجئة بسبب فقدان الحلال، مما دعاه إلى أكل شيء من هذه المحرّمات، حال كونه غير قاصد له، ولا متجاوز حدّ الضرورة، فإن الله يغفر له ويرحمه حفاظا على حقّ الحياة، فلا يؤاخذه بأكل ما يسدّ به الرّمق، ويدفع عنه ضرر الهلاك.
والخلاصة: إنّ الغرض من هذه الآية الكريمة الرّد على المشركين الذين ابتدعوا تحريم المحرّمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرّم، وإنّما حرّم أربعة أشياء هي: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به، لما فيها من الضّرر المادي أو المعنوي الذي يمسّ العقيدة وعبادة الله، ولأن لحومها خبيثة، ومن مهام هذا النّبي إباحة الطّيبات وتحريم الخبائث: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف ٧/ ١٥٧].
لكن الحصر المستفاد من هذه الآية وأمثالها أمر نسبي لا مطلق، وهذه الآية مخصوصة بالآيات والأخبار الدّالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة، مثل قوله

صفحة رقم 81

تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فهو يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة كالنّجاسات وهو أم الأرض، ومثل
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية»
وما روياه عن أبي ثعلبة الخشني: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السّباع»
، وفي رواية ابن عباس: «وأكل كل ذي مخلب من الطّير»،
وما روياه عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس فواسق من الدّواب كلّهن فاسق، يقتلن في الحلّ والحرام: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأر، والكلب العقور»
، ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ، لأن القتل إنما يكون بغير ذبح شرعي، فثبت أنها غير مأكولة، ولأن ما يؤكل لا ينهى عن قتله.
وخصّص الشافعية الآية أيضا بما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «واستخبثته العرب، فهو حرام»
، ومضمون رأيهم أن الحيوان الذي لم يرد فيه نص بخصوصه بالتّحليل أو التّحريم، ولم يؤمر بقتله، ولم ينه عن قتله، فإن استطابته العرب، فهو حلال، وإن استخبثته العرب فهو حرام. ودليلهم قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف ٧/ ١٥٧]، وقوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة ٥/ ٤]، قالوا:
وليس المراد بالطّيب هنا: الحلال إذ لا معنى له، لأن تقديره: أحلّ لكم الحلال، وإنما المراد بالطّيّبات: ما يستطيبه العرب. والمراد بالخبائث:
ما يستخبثونه، ويراعى في ذلك عاداتهم العامة في الاستيطاب والاستخباث، ولا ينظر إلى الأعراف الخاصة لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام.
واحتجّ كثير من السّلف بظاهر الآية، فأباحوا ما عدا المذكور فيها، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ، فقرأ الآية.

صفحة رقم 82

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن أكل كل ذي ناب من السّباع ومخلب من الطّير، قالت: قُلْ: لا أَجِدُ... إلخ.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدّواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه: قُلْ: لا أَجِدُ الآية. واستدلّ بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرّم من الميتة ما يأتي فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه، وقد فهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم من النّظم الكريم ذلك، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة،
وفي رواية: لميمونة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها- جلدها-»، فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما قال الله تعالى: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً وإنّكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به».
ثم أخبر الله سبحانه عما حرّمه على بني إسرائيل خاصة، عقوبة لهم، على سبيل المقارنة بما شرعه القرآن للمسلمين، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا.. أي وحرّمنا على اليهود دون غيرهم كل ذي ظفر: وهو كلّ ما ليس منفرج الأصابع، أو مشقوق الأصابع من البهائم والطير، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير.
وحرّمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة، لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، وهي ما على الكرش والكلى فقط، أما شحوم الظّهر والذّيل فحلال لقوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وإلا الْحَوايا: ما حملته الأنعام، وإلا مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فكل هذه الشحوم أحللناه لهم.

صفحة رقم 83

ذلك التّحريم الذي حرّمناه عليهم بسبب بغيهم، وعقوبة لهم، لقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وصدّهم عن سبيل الله، وأخذهم الرّبا، واستحلالهم أموال النّاس بالباطل.
وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم: إن الله لم يحرّم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرّمه إسرائيل على نفسه.
ولما كان هذا إخبارا عمّا حكم الله به على اليهود في الماضي، ولم يكن لأحد به علم، وردّا على قولهم: لم يحرّم علينا شيء، قال تعالى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ قال الطبّري: أي لصادقون في إخبارنا بهذه الأخبار من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا، من أن إسرائيل هو الذي حرّمه على نفسه، ومن أصدق من الله حديثا، وقال ابن كثير: أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به.
فإن كذّبوك يا محمد بعد هذا أي اليهود، كما قال مجاهد والسّدي، أو مشركو مكة، والصواب: فإن كذّبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود وأشباههم في ادّعاء النّبوة والرّسالة، وفي تبليغ الأحكام فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتّباع رسوله، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي لا يردّ عذابه عن كلّ مجرم، وهذا ترهيب لهم من مخالفتهم الرّسول خاتم النّبيين صلّى الله عليه وسلّم.
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين التّرغيب والتّرهيب في القرآن، كما قال تعالى في آخر هذه السّورة إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت آية: قُلْ: لا أَجِدُ.. على تحريم أربعة أشياء، هي: الميتة، والدّم المسفوح، ولحم الخنزير، والمذبوح للأصنام تعبّدا، وبما أن الآية مكية فمعناها وما يستفاد منها مقصور على هذه الأربعة، أي قُلْ يا محمد،

صفحة رقم 84

لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ إلا هذه الأشياء، لا ما تحرّمونه بشهوتكم، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرّم غير هذه الأشياء، كما قال القرطبي، ثم نزلت سورة [المائدة] بالمدينة. وزيد في المحرّمات من أصناف الميتة المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة ونحوها، كما زيد تحريم الخمر.
وحرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السّباع وكلّ ذي مخلب من الطّير.
وأكثر أهل العلم أن كل محرّم حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو جاء في القرآن مضموما إلى هذه المحرّمات، فهو زيادة حكم من الله عزّ وجلّ على لسان نبيّه عليه الصّلاة والسّلام. مثل زواج المرأة على عمّتها وعلى خالتها، مع قوله تعالى:
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء ٤/ ٢٤]، وحكمه عليه الصّلاة والسّلام باليمين مع الشاهد مع قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [البقرة ٢/ ٢٨٢]. وآية: قُلْ: لا أَجِدُ... هي جواب لمن سأل عن شيء بعينه، فوقع الجواب مخصوصا.
وقال مالك: لا حرام بيّن إلا ما ذكر في هذه الآية، ولهذا قال بعض المالكية: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح.
ودلّت الآية أيضا على حكم استثنائي وهو حال الضرورة، فعند الاضطرار يزول تحريم المحرمات، لدفع خطر الهلاك، وحفاظا على حقّ الحياة.
وأما آية: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا فتدلّ على أنّ الله تعالى حرّم على اليهود عقوبة لهم أشياء أخرى سوى هذه الأربعة المذكورة في الآية السابقة، وهي نوعان، ولم يحرمهما على المسلمين.
النّوع الأوّل- كل ذي ظفر غير مشقوق الأصابع، كالإبل والنّعام والإوزّ والبط.

صفحة رقم 85
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية