القوى النفسانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم بإغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وانتفع كل منا في صورة الجمعية الإنسانية بالآخر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا بالموت أو المعاد على أقبح الهيئات وأسوأ الأحوال قالَ النَّارُ أي نار الحرمان ووجدان الآلام مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي نجعل بعضهم ولي بعض أو وليه وقرينه في العذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي حسب استعدادهم.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
وهي عند كثير من أرباب الإشارة العقول وهي رسل خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لإرسال الرسل الأخر وهي رسل خارجية.
وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على العقل أيضا. وهذه الأسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي الأبدان أو القلوب بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ بل ينبههم بالعقل وإرشاده إقامة للحجة ولله تعالى الحجة البالغة وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مراتب في القرب والبعد وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ لذاته عن كل ما سواه ذُو الرَّحْمَةِ العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لغناه الذاتي عنكم وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من أهل طاعته برحمته قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي جهتكم من الاستعداد إِنِّي عامِلٌ على مكانتي من ذلك وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ في قلوب عباده جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ككرم العشق والمحبة وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء، والوفاء، والعفة، والحلم، والشجاعة. وَالنَّخْلَ أي نخل الإيمان وَالزَّرْعَ أي زرع إرادات الأعمال الصالحة وَالزَّيْتُونَ أي زيتون الإخلاص وَالرُّمَّانَ أي رمان شجر الإلهام، وقيل في كل غير ذلك وباب التأويل واسع كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وهو المشاهدات والمكاشفات إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا المريدين حَقَّهُ وهو الإرشاد والموعظة الحسنة يَوْمَ حَصادِهِ أوان وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة وَلا تُسْرِفُوا بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل أوانها إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم وَمِنَ الْأَنْعامِ أي قوى الإنسان حَمُولَةً ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع وَفَرْشاً ما هو مستعد لإصلاح القالب وقيام البشرية كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان. ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالميل إلى الشهوات الفانية والاحتجاب بالسوى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد.
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما، والمراد به هنا الأول، وإلا كانت أربعة. وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام وثَمانِيَةَ على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين- بدل من حَمُولَةً وَفَرْشاً منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء.
وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على جَنَّاتٍ وحذف الفعل وحرف العطف، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى. وأن يكون مفعولا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج وَلا تَتَّبِعُوا جملة معترضة. وأن يكون حالا من ما مرادا بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانا للهيئة وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقا أو مؤولا به ظاهر. وتعقب ذلك شيخ الإسلام بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة انتهى. وفيه منع ظاهر، وقوله سبحانه: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة. ونصب «اثنين» قيل: على أنه بدل من «ثمانية أزواج» بدل بعض من كل أو كل من كل أن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به.
وقال العلامة الثاني: الظاهر أن مِنَ الضَّأْنِ بدل من الأنعام واثْنَيْنِ من حَمُولَةً وَفَرْشاً أو من ثمانية أزواج أن جوزنا أن يكون للبدل بدل، وجوز أن يكون البدل «اثنين» ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها.
وقرىء «اثنان» على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر، وقرىء بفتح الهمزة وهو لغة فيه وَمِنَ الْمَعْزِ زوجين اثْنَيْنِ التيس والعنز. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس. وقرأ أبي «ومن المعزى» وهو اسم جمع معز، وهذه الأزواج الأربعة- على ما
اختاره شيخ الإسلام- تفصيل للفرش قال: ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن الجواب آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضار وذكر المعز حَرَّمَ الله تعالى أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أي أنثى ذينك الصنفين، ونصب آلذَّكَرَيْنِ والْأُنْثَيَيْنِ بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئا ما ذكر أو نبئوني ببينة متلبسة بعلم صادرة عنه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الانقطاع وَمِنَ الْإِبِلِ زوجين اثْنَيْنِ الجمل والناقة، وهذا عطف على قوله سبحانه: ومِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ والإبل- كما قال الراغب- يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع- كما في القاموس- على آبال والتصغير أبيلة.
وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ هما الثور وأنثاه قُلْ إفحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الله تعالى منهما أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين، والمعنى- كما قال كثير من أجلة العلماء- إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.
وبيانه- على ما قال الكسائي- أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل الذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت.
ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا: إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما. وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكر والإناث.
وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول: هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا: إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل: إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر. وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى. ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما.
ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبختي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه، وقول الطبرسي: إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم، وقوله سبحانه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ تكرير للإفحام والتبكيت، وأم منقطعة، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ أي أمركم وألزمكم بِهذا التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولا بخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه. والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم، والمراد به- على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- عمرو بن لحي بن قمئة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى، وقيل: كبراؤهم المقررون لذلك، وقيل: الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى، والمراد فأي فريق أظلم ممن إلخ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء. ومن تابع عمرا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به، والفاء لترتيب ما بعد على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم، ونصب كَذِباً قيل على المفعولية، وقيل: على المصدرية من غير لفظ الفعل، وجعله حالا أي كاذبا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافا لمن زعمه.
لِيُضِلَّ النَّاسَ متعلق بالافتراء بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير افْتَرى أي افترى عليه سبحانه جاهلا بصدور التحريم عنه جل شأنه، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور.
وجوز كونه حالا من فاعل يضل على معنى متلبسا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم. وقيل:
معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلا بذلك غير عالم به، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من النَّاسَ وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم. واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم، وفيه أنه ليس كل ما كان مذموما من الخلق كان مذموما من الخالق.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى طريق الحق، وقيل: إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضا. وقيل: إلى ما فيه صلاحهم عاجلا وآجلا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى قُلْ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم.
وقوله سبحانه: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إلخ كناية عن عدم الوجود، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى، وتنبيه- كما قيل- على أن الأصل في الأشياء الحل، و
مُحَرَّماً صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني فِي ما أُوحِيَ قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف، وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى «أوحي» أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها عَلى طاعِمٍ أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم: مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وقوله تعالى: يَطْعَمُهُ في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه: طائِرٍ يَطِيرُ [الأنعام: ٣٨] قطعا للمجاز. وقرىء «يطعمه» بالتشديد وكسر العين، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى، والمراد بالطعم تناول الغذاء، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم الكلام عليه، والمتبادر هنا الأول، وقد يراد به مطلق النفع، ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا إلا عجازا صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به، نعم قيل: المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم: رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء يَطْعَمُهُ على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك الطعام أو الشيء المحرم مَيْتَةً المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها. وقرأ ابن كثير. وحمزة «تكون» بالتاء لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «يكون ميتة» بالياء ورفع «ميتة». وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة أَوْ دَماً عطف على مَيْتَةً أو على أن مع ما في حيزه. وقوله سبحانه: مَسْفُوحاً أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال.
وفي الحديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال»
وقد رخص في دم العروق بعد الذبح، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء. وعن عكرمة أنه قال: لولا هذا القيد لا تبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود.
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أي اللحم- كما قيل- لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا. وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى، وقيل- وهو خلاف الظاهر-: الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور رِجْسٌ أي قدر أو خبيث مخبث أَوْ فِسْقاً عطف على لَحْمَ خِنزِيرٍ على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة.
وأصل الإهلال رفع الصوت. والمراد الذبح على اسم الأصنام. إنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق. وجوز أن يكون فِسْقاً مفعولا له لأهلّ وهو عطف على يَكُونَ وبِهِ قائم مقام الفاعل. والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يَكُونَ.
قال أبو حيان: وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ «إلا أن يكون ميتة» بالرفع لأن ضمير بِهِ ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر اه. وعنى بذلك- كما قال الحلبي- أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام- من- التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه- من- كان ضرورة كقوله:
ترمى بكفي كان من أرمى البشر
أراد بكفي رجل كان إلخ. وهذا- كما حقق في موضعه- رأي بعض، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة- كما قال السفاقسي- فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى فَمَنِ اضْطُرَّ أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين.
وقال الحسن: أي غير متناول للذة وقال مجاهد: غَيْرَ باغٍ على إمام وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه.
ونصب غَيْرَ على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة.
وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه. وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والفسق الذي أهلّ لغير الله تعالى به، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له.
فإن قلت: المستثنى ليس مَيْتَةً بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب: نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الأشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة [النحل: ١١٥] : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وإنما تفيد الحصر، وقال سبحانه في سورة [المائدة: ١] : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: ٣] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.
وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل: وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو
حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر (١) المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة. واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا. ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال. وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة. وبعضهم قال لاتصال الاستثناء: إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من مُحَرَّماً وفيه تكلف ظاهر، وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة. والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة.
وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار. وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر هاهنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية. أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله: إنهم يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن أبى ذلك البحر- يعني ابن عباس- وقرأ قل لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ الآية.
وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: قُلْ لا أَجِدُ إلخ. وأخرج عن ابن عباس قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه قُلْ لا أَجِدُ الآية. وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام. فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ثم قال: ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل
أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما استخبثته العرب فهو حرام»
وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط
فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال: «يعافه طبعي»
ولم يكن ذلك سببا لتحريمه. وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم انتهى. ولا يخفى ما فيه.
واستدل النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ،
أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به».
واستدل الشافعية بقوله سبحانه: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل، والنعام، والإوز، والبط قاله ابن عباس، وابن جبير وقتادة، ومجاهد، والسدي وعن ابن زيد أنه الإبل فقط. وقال الجبائي: يدخل فيه كل السباع والكلاب، والسنانير، وما يصطاد بظفره، وعن القتبي. والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا مجازا. واستبعد ذلك الإمام، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراما قبله.
ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة حَرَّمْنا وهذا- كما قيل- تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيها فصل بإبطال ما يخلفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح، وإبراهيم، ومن بعدهما عليهم السلام حتى انتهى التحريم إلينا، وقال بعض المحققين: إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبا عليهم: وقرأ الحسن «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء. وقرأ أبو السماك بكسرهما. وقرىء كما قال أبو البقاء «ظفر» بضم الظاء وسكون الفاء.
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لا لحومهما فإنها باقية على الحل، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى. وقيل: هو عام استثني منه ما سيأتي. ومِنَ الْبَقَرِ متعلق بحرمنا بعده. وكان يكفي حينئذ أن يقال: الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال: أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم، وجوز أبو البقاء- وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر- أن مِنَ الْبَقَرِ عطف على كُلَّ ذِي ظُفُرٍ على معنى وبعض البقر وجعل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما تبيينا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه.
إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي ما علق بظهورهما. والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم. وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحما يحنث بشحم البطن فقط وخالفه في ذلك صاحباه فقالا: يحنث بشحم الظهر أيضا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار. وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال. وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاما لا شحاما. والاتصال وإن كان أصلا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما أو المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والأمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة. وللقائل بالاتصال أن يقول: العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الْحَوايا بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء. وجوز غير واحد أن يكون العطف على ظُهُورُهُما وأن يكون على شُحُومَهُما وحينئذ يكون ما ذكر محرما وإليه ذهب بعض السلف. وهو يعطف قوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص، وقيل: هو المخ ولا يقول أحد إنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضا. والْحَوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل
وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة إلفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا وقيل: جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضا وإعلاله كما علمت، وقيل: جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام الفا فصار حوايا.
وجوز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضا. وأَوِ بمعنى الواو.
وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١٣٥] وقال الزجاج: هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا. وأَوِ بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت: لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم ولا تطع الجماعة، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب. واختاره العلامة الثاني وقال: الوجه أن يقال إن كلمة أَوِ في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل. وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال: وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط. وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في «أو» هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثني منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم وأَوِ على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع ذلِكَ إشارة إلى الجزاء أو التحريم: فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده. وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم جَزَيْناهُمْ وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره. وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والحلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارا به إلى المصدر غير متبوع به.
وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.
وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم.
وقيل: المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن ابراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضا. ولا بعد