
خلقت لكم ثمانية أصناف. ويقال: كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج نزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا: ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا.
ففي هذه الآية دليل إثبات المناظرة في العلم، لأن الله تعالى أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يناظرهم ويبيّن فساد قولهم. وفيها إثبات القول بالنظر والقياس، وفيها دليل أن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به، ويروى إذا ورد عليه النقض لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علّتهم، وأمرهم بأن يثبتوا وجه الحرمة إن كان سبب الحرمة الأنوثة والذكورة أو اشتمال الرحم. فإن كان سبب الحرمة الأنوثة ينبغي أن يكون كل أنثى حراماً لوجود العلة. وإن كان سبب الحرمة الذكورة ينبغي أن يكون كل ذكر حراماً لوجود العلة وإن كان محرماً لاشتمال الرحم وقد حرم الأولاد كلها ووجهت حرمتها لوجود العلة فيها فبّين انتقاض علتهم وفساد قولهم، وذلك قوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني: ثمانية أصناف مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني: قولهم وذلك قوله: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ يعني: الذكر والأنثى قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ يعني:
قل لهم من أين جاء هذا التحريم من قبل الذكرين حُرِّمَ أم من قبل الأُنثيين؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعني: أم من قبل اشتمال الرحم فإنها لا تشتمل إلا على الذكر والأنثى.
نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يعني: أخبروني بسبب التحريم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الله حرم ما تقولون وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعني: من أين جاء هذا التحريم.
ثم قال: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ يعني: إذا لم تقدروا على إثبات تحريم ذلك بالعقل فهل لكم كتاب يشهد على تحريم هذا؟ فذلك قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا يعني:
أمركم الله بهذا التحريم فسكت مالك بن عوف وتحير فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا لَكَ لاَ تتكلم» فقال: بل تكلم أنت فأسمع قال الله عزّ وجلّ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بغير حجة وبيان لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: ليصرف الناس عن حكم الله تعالى بالجهل إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني: لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يوفقّهم إلى الهدى مجازاةً لكفرهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وَمِنَ الْمَعْزِ بنصب العين. وقرأ الباقون بالجزم. ومعناهما واحد. ثم بيَّن لهم ما حرم عليهم فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي مآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)

قُلْ لا أَجِدُ فِي مآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً يعني: لا أجد فيما أنزل علي من القرآن شيئاً محرماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ. يعني: على آكل إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً. قرأ ابن عامر إلا أَن تَكُون مَيْتَةً بالتاء على لفظ التأنيث لأن الميتة مؤنث وقرأ مَيْتَةً بالضم لأنه اسم كان. وقرأ حمزة وابن كثير إِلا أَن تَكُونَ بالتاء بلفظ التأنيث مَيْتَةً بالنصب فجعل الميتة خبراً لكان، والاسم فيه مضمر. وقرأ الباقون إِلَّا أَنْ يَكُونَ بلفظ التذكير الميتة بالنصب، وإن جعلوه مذكراً لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه إلا أن يكون المأكول ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يعني:
سائلاً جارياً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي: حرام أَوْ فِسْقاً يعني: معصية أُهِلَّ يعني:
ذبح لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني: لغير اسم الله وقال بعضهم: في الآية تقديم. ومعناه: إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو فسقا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فإنه رجس أي حرام. يعني: جميع ما ذكر في الآية هو رجس. ويقال: الرجس هو نعت للحم الخنزير خاصة. وروى عمر بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ الآية يعني: ما لم يبيّن تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية. وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن أنه قال: الله لولا حديث سلمة بن المحبق ما لبسنا خفافكم، ولا نعالكم، ولا فراكم، حتى نعلم ما هي.
قال أبو بكر: فذكرت ذلك للزهري، فقال: صدق الحسن ذلك عندي أوسع من هذا. حدثني عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أنه قرأ قُلْ لا أَجِدُ فِي مآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية. قال: إنما حرم من الميتة أكلها وما يؤكل منها، وهو اللحم، أما الجلد والعظم والشَّعر والصوف فحلال. قال: وقد احتج بعض الناس بهذه الآية، على أن ما سوى هذه الأشياء التي ذكر في الآية مباح. ولكن نحن نقول قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية. وقد بيّن على لسان رسول الله ﷺ من ذلك كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وقد قال تعالى:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧].
ثم قال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقد ذكرنا تأويل هذه الآية. ثم قال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا يعني: أن هذه الأشياء التي ذكرنا في الآية كانت حراماً في الأصل وقد حرّم الله أشياء كانت حلالاً في الأصل على اليهود بمعصيتهم. كُلَّ ذِي