آيات من القرآن الكريم

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

ذلِكَ إِلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ إِلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. وَأَنْ فِي أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ أَنَّ الشَّأْنَ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى، أَوْ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ، وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمٍ سَبَبِيَّةٌ: أَيْ لَمْ أَكُنْ أُهْلِكُ الْقُرَى بِسَبَبِ ظُلْمِ مَنْ يَظْلِمُ مِنْهُمْ، وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَهَا غَافِلُونَ، لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ لِأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ مَنْ عَصَاهُ بِالْكُفْرِ مِنَ الْقُرَى، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، بَلْ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَارْتِفَاعِ الْغَفْلَةِ عَنْهُمْ بِإِنْذَارِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «١» وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَا كَانَ اللَّهُ مُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى بِظُلْمٍ مِنْهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ بَلْ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا ذَلِكَ وَتَرْتَفِعَ الْغَفْلَةُ عَنْهُمْ بِإِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أَهْلَ الْقُرَى بِسَبَبِ ظُلْمِ مَنْ يَظْلِمُ مِنْهُمْ مَعَ كَوْنِ الْآخَرِينَ غَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «٢»، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ لِكُلٍّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ مِمَّا عَمِلُوا فَنُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ «٣»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعَ مِنَ الْجِنِّ فِي الْجَنَّةِ، وَالْعَاصِي فِي النَّارِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْغَفْلَةُ: ذَهَابُ الشَّيْءِ عَنْكَ لِاشْتِغَالِكَ بِغَيْرِهِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «تَعْمَلُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً قَالَ: يُوَلِّي اللَّهُ بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ مِثْلَ مَا حَكَيْنَا عَنْهُ قَرِيبًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا فَسَدَ الزَّمَانُ أُمِّرَ عَلَيْهِمْ شِرَارُهُمْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا تَكُونُونَ كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَيَحْيَى ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: سُلٌ مِنْكُمْ
قَالَ: لَيْسَ فِي الْجِنِّ رُسُلٌ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ فِي الْإِنْسِ، وَالنِّذَارَةُ فِي الْجِنِّ، وَقَرَأَ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «٤». وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْجِنُّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ أَيْضًا عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: مُسْلِمُو الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ أَبَاهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ وَلَا يُعِيدُ وَلَدَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَلْقُ أَرْبَعَةٌ: فَخَلْقٌ فِي الْجَنَّةِ كُلُّهُمْ، وَخَلْقٌ فِي النَّارِ كُلُّهُمْ، وَخَلْقَانِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْجَنَّةِ كُلُّهُمْ فَالْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي النَّارِ كُلُّهُمْ فَالشَّيَاطِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ، لَهُمُ الثَّوَابُ وعليهم العقاب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٧]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)

(١). الإسراء: ١٥.
(٢). الأنعام: ١٦٤.
(٣). الأحقاف: ١٩.
(٤). الأحقاف: ٢٩.

صفحة رقم 186

قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أَيْ عَنْ خَلْقِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَى عِبَادَتِهِمْ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُمْ، فَهُوَ ذُو رَحْمَةٍ بِهِمْ لَا يَكُونُ غِنَاهُ عَنْهُمْ مَانِعًا مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ الرَّبَّانِيَّ وَأَبْلَغَهُ! وَمَا أَقْوَى الاقتران بين الغنى والرحمن فِي هَذَا الْمَقَامِ! فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَهُمْ مَعَ الْغِنَى عَنْهُمْ هِيَ غَايَةُ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الْعِبَادُ الْعُصَاةُ فَيَسْتَأْصِلْكُمْ بِالْعَذَابِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِكُمْ مَا يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَعُ لَهُ وَأَسْرَعُ إِلَى امْتِثَالِ أَحْكَامِهِ مِنْكُمْ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ وَيَسْتَخْلِفُ اسْتِخْلَافًا مِثْلَ إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ، قِيلَ: هُمْ أَهْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهْلِكْهُمْ وَلَا اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُمْ رَحْمَةً لَهُمْ وَلُطْفًا بِهِمْ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْمُجَازَاةِ لَآتٍ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ بِفَائِتِينَ عَنْ مَا هُوَ نَازِلٌ بِكُمْ، وَوَاقِعٌ عَلَيْكُمْ: يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ: أَيْ فَاتَنِي وغلبني. قوله: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ الْمَكَانَةُ: الطَّرِيقَةُ، أَيِ اثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِّي غَيْرُ مُبَالٍ بِكُمْ وَلَا مُكْتَرِثٍ بِكُفْرِكُمْ، إِنِّي ثَابِتٌ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَقِّ وَمَنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، فَلَا يَرِدُ مَا يُقَالُ كَيْفَ يأمرهم بالثبات على الكفر؟ وعاقِبَةُ الدَّارِ هِيَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي يُحْمَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا: أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْرُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَهُ وِرَاثَةُ الْأَرْضِ، وَمَنْ لَهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى مَكَانَتِكُمْ: تَمَكُّنُكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيِ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقِيلَ: عَلَى نَاحِيَتِكُمْ، وَقِيلَ: عَلَى مَوْضِعِكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: مَنْ يَكُونُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِلشَّأْنِ، أَيْ: لَا يُفْلِحُ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الظُّلْمِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِعَدَمِ فَلَاحِهِمْ لِكَوْنِهِمُ الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ. قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً هَذَا بَيَانُ نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وإيثارهم لِآلِهَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ جَعَلُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا خَلَقَ مِنْ حَرْثِهِمْ وَنِتَاجِ دَوَابِّهِمْ نَصِيبًا وَلِآلِهَتِهِمْ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ يَصْرِفُونَهُ فِي سَدَنَتِهَا وَالْقَائِمِينَ بِخِدْمَتِهَا، فَإِذَا ذَهَبَ مَا لِآلِهَتِهِمْ بِإِنْفَاقِهِ فِي ذَلِكَ عَوَّضُوا عَنْهُ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ، وَقَالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ. وَالزَّعْمُ: الْكَذِبُ. قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ بِزَعْمِهِمْ بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أَيْ إِلَى الْمَصَارِفِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ الصَّرْفَ فِيهَا كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ،

صفحة رقم 187

وَقِرَى الضَّيْفِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ أَيْ يَجْعَلُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ وَيُنْفِقُونَهُ فِي مَصَالِحِهَا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ سَاءَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ فِي إِيثَارِ آلِهَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَبَحُوا مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ ذَكَرُوا عَلَيْهِ اسْمَ أَصْنَامِهِمْ، وَإِذَا ذَبَحُوا مَا لِأَصْنَامِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ، فَهَذَا مَعْنَى الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي ذَرَأَ. قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ فِي قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِمْ زَيَّنَ لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: شُرَكَاؤُهُمْ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَخْدُمُونَ الْأَوْثَانَ وَقِيلَ: هُمُ الْغُوَاةُ مِنَ النَّاسِ وَقِيلَ: هُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْوَأْدِ، وَهُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ مَخَافَةَ السَّبْيِ وَالْحَاجَةِ وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا مِنَ الذُّكُورِ لَيَنَحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا فَعَلَهُ عَبْدُ الْمَطَّلِبِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ زَيَّنَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ قَتْلَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ زَيَّنَ، وَجَرِّ أَوْلَادِ بِإِضَافَةِ قَتْلَ إِلَيْهِ، وَرَفْعِ شُرَكاؤُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ زَيَّنَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ الزَّايِ وَرَفْعِ قَتْلَ، وَخَفْضِ أَوْلَادِ، وَرَفْعِ شُرَكَاؤُهُمْ عَلَى أَنَّ قَتْلَ هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَرَفْعُ شُرَكَاؤُهُمْ بِتَقْدِيرِ يَجْعَلُ يَرْجِعُهُ: أَيْ زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مَا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
أَيْ يَبْكِيهِ ضَارِعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ بِضَمِّ الزَّايِ، وَرَفْعِ قَتْلَ، وَنَصْبِ أَوْلَاد، وَخَفْضِ شُرَكَائِهِمْ عَلَى أَنَّ قَتْلَ مُضَافٌ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَمَعْمُولُهُ أَوْلَادُهُمْ فَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا هُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَمُرُّ على ما تستمرّ وقد شفت غلائل عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْهَا صُدُورِهَا
بِجَرِّ صُدُورِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: شفت عبد القيس غلائل صُدُورِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا فِي شِعْرٍ، وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ فِي الشِّعْرِ لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ، وَهُوَ أَيِ: الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ فِي الشِّعْرِ بَعِيدٌ، فَإِجَازَتُهُ فِي الْقُرْآنِ أَبْعَدُ. وَقَالَ أَبُو غَانِمٍ أحمد ابن حِمْدَانَ النَّحْوِيُّ: إِنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ هَذِهِ لَا تَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ، وَإِذَا زَلَّ الْعَالِمُ لَمْ يَجُزِ اتِّبَاعُهُ وَرُدَّ قَوْلُهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا أَجَازُوا فِي الضَّرُورَةِ لِلشَّاعِرِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
كَمَا خَطَّ الْكِتَابَ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
...
لِلَّهِ دَرُّ الْيَوْمَ مَنْ لَامَهَا «١»
وَقَالَ قَوْمٌ مِمَّنِ انْتَصَرَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِنَّهَا إِذَا ثَبَتَتْ بالتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهي فصيحة لا قبيحة. قالوا:
(١). وصدره: لمّا رأت ساتيد ما استعبرت. والبيت لعمرو بن قميئة. «ساتيد ما» : اسم جبل.

صفحة رقم 188
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني
الناشر
دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
سنة النشر
1414
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية