
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: ١١] وَقَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٥] وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (كُلٍّ) مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ كَانَ إِيمَاءً إِلَى تَغْلِيبِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ لَا بَأْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ مُشْرِكِيهَا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ:
فِي الدُّنْيَا بِالْهِجْرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِحَشْرِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ سَيَخْرُجُونَ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي حَقَّ عَلَى أَهْلِهَا الْعَذَابُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْجُوعِ وَالْخَوْفِ ثُمَّ بِالْغَزْوِ بَعْدَ أَنْ أنجى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الدَّرَجَاتِ أَنَّ أَسَافِلَهَا دَرَكَاتٌ فَغُلِّبَ دَرَجَاتٌ لِنُكْتَةِ الْإِشْعَارِ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ نِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَمن فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَمِلُوا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَيْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ خطاب للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَالْمَقْصُودُ
مُشْرِكُو مَكَّةَ، فَهُوَ لِلتَّسْلِيَةِ والتّطمين لِئَلَّا يستبطىء وَعْدَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ بَابِ: وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامر- بتاء الْخطاب-، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ وَعْدٌ بِالْجَزَاءِ عَلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، تَرْشِيحًا لِلتَّعْبِيرِ بِالدَّرَجَاتِ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ، لِيَكُونَ سَلًّا لَهُمْ مِنْ وَعِيدِ أَهْلِ الْقُرَى أَصْحَابِ الظُّلْمِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْن مُرَاد الله تَعَالَى فِيمَا أَحْسِبُ.
[١٣٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٣]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عَلَى جُمْلَةِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام:
١٣٢] إِخْبَارًا عَنْ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ عَمَلِهِ، وَفِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ غِنَاهُ تَعَالَى عَنْ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَالَاتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: ٧]، وَكِنَايَةٌ عَنْ رَحْمَتِهِ إِذْ أَمْهَلَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ، كَمَا قَالَ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٥٨].
وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ إِظْهَارٌ، فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمَا فِي اسْمِ الرَّبِّ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى الْعِنَايَةِ بِصَلَاحِ الْمَرْبُوبِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَسِيرُ مَسْرَى الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ، وَلِلتَّنْوِيهِ بشأن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْغَنِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْغَنِيُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ بِحَالٍ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ: إِنَّ صِفَةَ الْغَنِيِّ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ مَعْنَاهَا وُجُوبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمُمْكِنِ إِلَى الْمُوجِدِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يُرَجِّحُ طَرَفَ وُجُودِهِ عَلَى طَرَفِ عَدَمِهِ، هُوَ أَشَدُّ الِافْتِقَارِ، وَأَحْسِبُ أَنَّ مَعْنَى الْغَنِيِّ لَا يثبت فِي اللّغة للشّيء إلّا بِاعْتِبَار أنّه مَوْجُود فَلَا يَشْمَل معنى الْغنى صِفَةُ الْوُجُودِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اصْطِلَاحًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ خَاصًّا بِمَعْنَى الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُغْنِي، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْغَنِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٣٥].
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ مُقْتَضٍ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ الْغِنَى عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ غِنَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ غِنًى نَاقِصًا نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، أَيْ رَبُّكَ الْغَنِيُّ لَا غَيْرُهُ، وَغِنَاهُ تَعَالَى حَقِيقِيٌّ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْغَنِيِّ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْحُكْمِ الْوَارِدِ عَقِبَهُ، وَهُوَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الدَّعْوَى، تَذْكِيرًا بِتَقْرِيبِ حُصُولِ الْجَزْمِ بِالدَّعْوَى.

وَ (ذُو الرَّحْمَةِ) خَبَرٌ ثَانٍ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِوَصْفِ الرَّحِيمِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ:
ذُو الرَّحْمَةِ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ لَا يَنْتَفِعُ الْخَلَائِقُ إِلَّا بِلَوَازِمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهِيَ جُودُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ غِنَاهُ، بِخِلَافِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَهَا يَنْفَعُ الْخَلَائِقَ، فَأُوثِرَتْ بِكَلِمَةِ ذُو لِأَنَّ ذُو كَلِمَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ، وَمَعْنَاهَا صَاحِبُ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقُوَّةِ أَوْ وَفْرَةِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ ذُو إِنْصَافٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِنْصَافِ، وَلَا يُقَالُ ذُو مَالٍ لِمَنْ عِنْدَهُ مَالٌ قَلِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِذِي الرَّحْمَةِ، هُنَا تَمْهِيدٌ لِمَعْنَى الْإِمْهَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، أَيْ فَلَا يقولنّ أحد لماذَا لَمْ يُذْهِبْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ أَمْهَلَهُمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
اسْتِئْنَافٌ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الْإِنْذَارَ بِعَذَابِ الْإِهْلَاكِ، فَيَقُولُونَ:
مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: ٢٨] وَذَلِكَ مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤].
فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَن يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِمَنْ يَغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ من الْمُشْركين، وَيجوز أَن يكون إقبالا على خطاب الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا صَرِيحًا.
وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُعَجِّلْ بِإِفْنَائِكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ من بعدكم مِنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨] أَيْ فَمَا إِمْهَالُهُ إِيَّاكُمْ إِلَّا لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

وَجُمْلَة الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الْمُبْتَدَأ.
ومفعول: يَشَأْ مَحْذُوفٌ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمَأْلُوفَةِ فِي حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ.
وَالْإِذْهَابُ مَجَازٌ فِي الْإِعْدَامِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٨].
وَالِاسْتِخْلَافُ: جَعْلُ الْخَلَفِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْخَلَفُ: الْعِوَضُ عَنْ شَيْءٍ فَائِتٍ، فَالسِّينُ
وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ، أَيْ: مَا يَشَاءُ مِنْ مُؤْمِنِينَ أَوْ كَافِرِينَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الضَّمِيرِ يُفِيدُ الْعُمُومَ.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ تَشْبِيهٌ فِي إِنْشَاءِ مَوْجُودَاتٍ بَعْدَ مَوْجُودَاتٍ أُخْرَى، لَا فِي كَوْنِ الْمُنْشَئَاتِ مُخْرَجَةً مِنْ بقايا المعدومات، وَيجوز أَن يكون التّشبيه فِي إنْشَاء موجودات من بقايا معدومات كَمَا أَنْشَأَ الْبَشَرَ نَشْأَةً ثَانِيَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِإِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
وَكَافُ التَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نِيَابَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهَا وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اسْتِخْلَافًا كَمَا أَنْشَأَكُمْ، فَإِنَّ الْإِنْشَاءَ يَصِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِخْلَافِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَعْنَى الذُّرِّيَّةِ وَاشْتِقَاقِهَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَوَصْفُ قَوْمٍ بِ آخَرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، أَيْ قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَن ينشيء أَقْوَامًا من أَقْوَامًا يُخَالِفُونَهُمْ فِي اللُّغَةِ وَالْعَوَائِدِ وَالْمَوَاطِنِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَبَاعُدِ الْعُصُورِ، وَتَسَلْسُلِ الْمُنْشَآتِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لَا يَحْدُثُ إِلَّا فِي أَزْمِنَةٍ بَعِيدَةٍ، فَشَتَّانَ بَيْنِ أَحْوَالِ قَوْمِ نُوحٍ وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَبَيْنَ ذَلِكَ قُرُونٌ مُخْتَلفَة متباعدة.