آيات من القرآن الكريم

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ

ولما ذكر سبحانه إقامة الحجة على الكافر في المعاد بالرسل عليهم السلام، علل إرسالهم ترغيباً وحثاً في اتباعهم في أيام المهلة بعد ترهيب، وتنبيهاً وإرشاداً في صادع تخويف وتأديب فقال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الجدوى هو أن أرسلنا الرسل ﴿أن﴾ أي لأجل أنه ﴿لم يكن ربك﴾ أي المحسن إليك بتشريف قومك ﴿مهلك﴾ أي ثابتاً إهلاكه ﴿القرى بظلم﴾

صفحة رقم 273

أي بسبب ظلم ارتكبوه ﴿وأهلها غافلون *﴾ أي غريقون في الغفلة عما يجب عليهم مما لا تستقل به عقولهم، أي بما ركب فيهم من الشهوات وغلب عليهم من اللذات، فأوقف عقولهم عن نافذ المعرفة بما يراد بهم، فأرسلنا إليهم الرسل حتى أيقظوهم من رقدتهم وأنبهوهم من غفلتهم، فصار تعذيبهم بعد تكذيبهم هو الحق الواجب والعدل الصائب، ويجوز أن يكون المعنى: مهلكهم ظالماً، فيكون المنفي من الظلم كالمنفي في قوله تعالى ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾ [فاطر: ٤٦] وعلى الأول المنفي ظلمهم.
ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام، والآخر دار الملام، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله ﴿لهم دار السلام عند ربهم﴾ [الأنعام: ١٢٧] :﴿ولكل﴾ أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين ﴿درجات﴾ أي يعليهم الله بها ﴿مما﴾ أي من أجل ما ﴿عملوا﴾ ودركات يهويهم فيها كذلك.
ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم، وتضمن ذلك إمهالهم، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال: ﴿وما ربك﴾ أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال:

صفحة رقم 274

﴿بغافل عما يعملون *﴾ أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين، بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن.
ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز، قال مرغباً مرهباً: ﴿وربك﴾ أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك، وحصر الخبر في المبتدإ بقوله: ﴿الغني﴾ أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها ﴿ذو الرحمة﴾ أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجوداً، استأنف بيان ذلك، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحاً بما أفاده: ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أي جميعاً بالإهلاك، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء

صفحة رقم 275

غير مشيئته، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكراماً لنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم قال تحقيقاً لغناه أيضاً: ﴿ويستخلف﴾.
ولما كان لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال: ﴿من بعدكم﴾ أي بعد هلاككم ﴿ما يشاء﴾ أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه ﴿كما أنشأكم من ذرية﴾ أي نسل ﴿قوم آخرين *﴾ أي بعد أن أهلكهم أجمعين، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفاً في أصلابهم، لم يكن في واحدة منها حياة.
ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة، أنتج ذلك قوله جواباً لاستعجالهم بالعذاب استهزاء: ﴿إن ما توعدون﴾ أي من البعث وغيره ﴿لآت﴾ أي لا بد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه ﴿وما أنتم بمعجزين *﴾ أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون.
ولما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر، فأنتج

صفحة رقم 276

الاجتهاد للعاقل - ولا بد - في العمل، وكان أكثر الخلق أحق، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله: ﴿قل يا قوم﴾ أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات ﴿اعملوا﴾ وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال: ﴿على مكانتكم﴾ أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد.
ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه، قال مستانفاً أو معللاً: ﴿إني عامل﴾ أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت، ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد، فيكون المعنى: اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة، إني كذلك أعمل فيما جئت به.
ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم، حسن إثبات الفاء في قوله: دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال: ﴿فسوف تعلمون﴾ أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم، فكأنه قيل: أيّ علم؟ فقيل:

صفحة رقم 277

﴿من تكون له﴾ كوناً كأنه جبل عليه ﴿عاقبة الدار﴾ أي بيني وبينكم، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم: عاقبة الدار للعامل العدل، استأنف قوله: ﴿إنه لا يفلح الظالمون *﴾ أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا، فلا يكون لهم عاقبة الدار، فالآية من الاحتباك: ذكرُ العاقبة أولاً دليل على حذفها ثانياً، وذكر الظلم ثانياً دليل على حذف العدل أولاً.

صفحة رقم 278
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن، برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط بن علي بن أبي بكر البقاعي
الناشر
دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء
22
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية