آيات من القرآن الكريم

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ

يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثَمُود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيَّ شيء تحبُّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعَلُ لنا الصَّفَا ذهبًا. فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين! (١) فقام رسول الله ﷺ يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: لك ما شئت، (٢) إن شئتَ أصبح ذهبًا، ولئن أرسل آيةً فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم، وإن شئت فأنْدِحْهُم حتى يتوب تائبهم. (٣) فقال: بل يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى: (وأقسموا بالله) إلى قوله: (يجهلون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون).
فقال بعضهم: خوطب بقوله: (وما يشعركم) المشركون المقسمون بالله،

(١) في المطبوعة: ((أجمعون))، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة أسقط ((له))، وهي في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: ((فاتركهم حتى يتوب تائبهم))، وفي المخطوطة: ((ما نرحهم))، غير منقوطة، ورجحت أن صواب ما أثبت، وإن كنت لم أجد هذا الحرف في كتب اللغة، وهو عندي من قولهم: ((ندحت الشيء ندحا))، إذ أوسعته وأفسحته، ومنه قيل: ((إن لك في هذا الأمر ندحة)) (بضم النون وفتحها وسكون الدال) و ((مندوحة))، أي: سعة وفسحة. فقولهم: ((أندحهم))، أي: أفسح لهم، واجعل لهم مندوحة في هذا الأمر حتى يتوب تائبهم. وهو حق المعنى إن شاء الله، والقياس يعين عليه.

صفحة رقم 39

لئن جاءتهم آية ليؤمنن= وانتهى الخبر عند قوله: (وما يشعركم)، ثم استُؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأ.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٣٧٤٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وما يشعركم)، قال: ما يدريكم. قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون.
١٣٧٤٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما يشعركم)، وما يدريكم="أنها إذا جاءت"، قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون.
١٣٧٤٩- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، سمعت عبد الله بن زيد يقول:"إنما الآيات عند الله"، ثم يستأنف فيقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون.
١٣٧٥٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إنما الآيات عند الله وما يشعركم)، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون.
* * *
وعلى هذا التأويل قراءةُ من قرأ ذلك بكسر ألف:"إنَّها"، على أن قوله:" إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لا يُؤْمِنُون"، خبر مبتدأ منقطعٌ عن الأول.
* * *
وممن قرأ ذلك كذلك، بعضُ قرأة المكيين والبصريين.
* * *
وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من الله نبيَّه ﷺ وأصحابه. قالوا: وذلك أنّ الذين سألوا رسول الله ﷺ أن يأتي بآيةٍ، المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سببَ مسألتهم إيّاه ذلك، أن المشركين حَلَفوا أنّ الآية

صفحة رقم 40

إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك! فسأل، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: "قل" للمؤمنين بك يا محمد="إنما الآيات عند الله وما يشعركم"، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله، أنهم لا يؤمنون به= ففتحوا"الألف" من"أنّ".
* * *
ومن قرأ ذلك كذلك، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة، وقالوا: أدخلت"لا" في قوله: (لا يؤمنون) صلة، (١) كما أدخلت في قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ)، [سورة الأعراف: ١٢]، وفي قوله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)، [سورة الأنبياء: ٩٥]، وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا= وما منعك أن تسجُد.
* * *
وقد تأوَّل قوم قرؤوا، ذلك بفتح"الألف" من (أنها) بمعنى: لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعب.
* * *
وقد ذكر عن العرب سماعًا منها:"اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا"، بمعنى: لعلك تشتري. (٢)
وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العِبَاديّ:
أَعَاذِلَ، مَا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي إلَى سَاعَةٍ فِي الْيَومِ أَوْ فِي ضُحَى الغَدِ (٣)

(١) ((الصلة)). الزيادة، والإلغاء، انظر فهارس المصطلحات.
(٢) انظر في هذا معاني القرآن للفراء ١: ٣٤٩، ٣٥٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٠٤.
(٣) جمهرة أشعار العرب ١٠٣، اللسان (أنن)، وغيرهما. من قصيدة له حكيمة، يقول قبله: وعَاذِلَةٍ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَلُوُمُنِي... فَلَمَّا غَلَتْ فِي الَّلوْمِ قُلْتُ لها: اقْصِدي

صفحة رقم 41

بمعنى: لعل منيَّتي; وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة: (١)

أعَاذِلَ، إن اللَّوْمَ في غير كُنْهِهِ عَلَيّ ثُنًى، مِنْ غَيِّكِ المُتَرَدِّدِ
أعَاذِلَ، إنَّ الجهْل مِنْ لَذَّةِ الفَتَى وَإنَّ المَنَايَا لِلرِّجَالِ بِمَرْصَدِ
أعَاذِلَ، مَا أَدْنَى الرشادَ مِنَ الفَتَى وأَبْعَدَهُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُسَدَّدِ
أعَاذِلَ، من تُكْتَبْ لَهُ النَّارُ يَلْقَهَا كِفِاحًا، وَمَنْ يُكْتَبْ لَهُ الفَوْزُ يُسْعَدِ
أَعَاذِلَ، قد لاقيتُ ما يَزَغُ الفتى وَطَابَقْتُ في الحِجْلَيْنِ مَشْيَ المُقيَّدِ
ذَرِينِي أُطَوِّفْ فِي البِلادِ لأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلا مُخَلَّدَا (٢)
بمعنى: لعلني. والذي أنشدني أصحابُنا عن الفراء:"لعلَّني أَرَى ما ترَيْن". وقد أنشد أيضًا بيتُ توبة بن الحميِّر:
لَعَلَّك يَا تَيْسًا نزا فيِ مَرِيرَةٍ مُعَذِّبُ لَيْلَى أَنْ تَرَانِي أَزُورُهَا (٣)
(١) في المطبوعة: ((وقد أنشدوني))، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) هكذا جاء البيت في المخطوطة والمطبوعة، وهو خطأ من أبي جعفر، أو من الفراء، بلا شك فإن الشطر الأخير من هذا الشعر، هو من شعر حطائط بن يعفر، وقد خرجته آنفًا ٣: ٧٨، واستوفيت الكلام عنه هناك، وأشرت إلى الموضع من اختلاف الشعر. وأما قوله: ((ذريتي أطوف واستوفيت الكلام عنه هناك، وأشرت إلى هذا الموضع من اختلاف الشعر. وأما قوله: ((ذريني أطوف في البلاد لعلني))، فهو كثير في أشعارهم، وأما شعر دريد بن الصمة الذي لاشك فيه، فهو هذا:
ذَرِينِي أُطَوِّفْ فِي البِلادِ لَعَلَّنِي ألاَُقِي بِإثْرٍ ثُلةً من مُحَارِبٍ
ولعل أبا جعفر نسي، فكتب ما كتب. وشعر دريد هذا مروي في الأصمعيات ص١٢ (ص: ١١٩، طبعة المعارف)، من قصيدة قالها بعد مقتل أخيه عبد الله، ذكر فيها ما أصاب خضر محارب من القتل والاستئصال، يقول قبله: ذَرِينِي أُطَوِّف.....................................
فَلَيْتَ قُبُورًا بالمَخَاضَةِ أَخْبَرَتْ فَتُخْبِرَ عَنَّا الخُضْرَ، خُضْرَ مُحَارِبِ
رَدَسْنَاهُمُ بِالخَيْلِ حَتى تَملأََّتْ عَوَافِي الضِّبَاعِ وَالذِّئَابِ السَّوَاغِبِ
(٣) من قصيدة فيما جمعته من شعره، وسيبويه ١: ٣١٢. يقول ذلك لزوج ليلى الأخيلية صاحبته، يتوعده لمنعه من زيارتها، وتعذيبه في سببه، ويجعله كالتيس ينزو في حبله. وقوله ((في مريرة))، ((المريرة)) الحبل المفتول المحكم الفتل.

صفحة رقم 42

"لهَنَّك يا تيسًا"، بمعنى: "لأنّك" التي في معنى"لعلك"، وأنشد بيت أبي النجم العجليّ:

قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهِ أَنَّا نُغَدِّي القَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ (١)
بمعنى: (٢) لعلنا نغدِّي القوم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله= أعنى قوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) = وأن قوله:"أنها"، بمعنى: لعلَّها.
وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله: (لا يؤمنون).
ولو كان قوله: (وما يشعركم) خطابًا للمشركين، لكانت القراءة في قوله: (لا يؤمنون)، بالتاء، وذلك، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك، فقراءةٌ خارجة عما عليه قرأة الأمصار، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها. (٣)
* * *
وإنما معنى الكلام: وما يدريكم، أيها المؤمنون، لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك، ولا يؤخَّروا به.
* * *
(١) المعاني الكبير لابن قتيبة: ٣٩٣، الخزانة ٣: ٥٩١، وروايتها ((كما نغدي)) قال ابن قتيبه: (قال أبو المجم وذكر ظليما... ((شيبان)) ابنه، قلت له: اركب في طلبه. ((كما)) بمعنى ((كيما))، يقول: كيما نصيده فنغدي القوم به مشويًا).
وكان البيت في المخطوطة غير منقوط، وفي المطبوعة: ((قلت لسيبان))، وهو خطأ. وفيها وفي المخطوطة: ((من سرايه))، والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: ((يعني))، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) قوله: ((ذهابها))، أي هلاكها وفسادها.

صفحة رقم 43
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية