آيات من القرآن الكريم

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ

زعمت بأن الملائكة بناته وكله زور محض اختلقوه كما اختلقوا الأوثان من تلقاء أنفسهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بعظمة الله، وإفكا مختلقا، وكانت العرب عند ما تسمع من الرجل كذبة في نواديهم تقول اخترقها والله، أي استعظاما لقول الزّور وتوبيخا للكاذب، راجع الآية ١٢ المارة من هذه السورة وذكر البنات هنا مما يؤيد أن المراد بالجن الشياطين كما جرينا عليه لا الملائكة لأنه لو كان المراد بالجن الملائكة لما أتى بذكرها ثانيا لأن الملائكة لا توصف بذكورة ولا بأنوثة والله أعلم ثم نزه الله نفسه المقدسة بنفسه المنزهة عن ذلك كله فقال «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ ١٠٠» جلاله بما لا يليق بجلاله كيف وهو
«بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» قد أبدعهما ومن فيهما وكونهما على غير مثال سابق، وهذا هو معنى الإبداع ومن كان كذلك «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» وهو المنفرد المنزه عن الأزواج كيف «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» زوجة لأن الولد لا يكون إلا منها عادة، ولا تكون الزوجة إلا من جنس الزوج حتى يتم التوالد بينهما وهو ليس كمثله شيء، ولأن الولادة من صفات الأجسام وهو مخترعها وليس بجسم، تعالى عن ذلك، ومن لا يكون جسما لا يكون له ولد، والولد لا يكون بلا زوجة عادة وهو منزه عن اتخاذها «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ومن هذا شأنه فهو غني عن كل شيء من الصاحبة والولد والمعين وغيره، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ١٠١» لأنه خالق كل شيء، ومن يخلق فهو أعلم بما يخلق علم اليقين، فلا يعزب عن علمه شيء، لأنه محيط بكل شيء «ذلِكُمُ» الموصوف بما تقدم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا، إذ هو المستحق للعبادة لا مخلوقه الذي بيده إعدامه وإعادته ونفعه وضره «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ١٠٢» رقيب فلا تقع حركة في ملكوته ولا سكون إلا بعلمه قال تعالى منزها ذاته الكريمة عما هو من شأن البشر «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» من خلقه لا إدراك إحاطة ولا مطلق إدراك، كما أن القلوب تعرفه بلا إحاطة «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» من جميع خلقه بحيث يراها ويحيط بها علما، والمراد بها النور الذي به تدرك المبصرات، فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه

صفحة رقم 385

يرى، وهذا هو السر من الإظهار بمقام الإضمار، وقيل المراد إن كل عين لا ترى نفسها وهو كذلك ولكن هذا ليس مرادا هنا «وَهُوَ اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها، الرفيق بعباده، وهو عائد إلى الجملة الأولى، لأنه يناسب كونه غير مدرك «الْخَبِيرُ ١٠٣» العالم بظواهر الأمور وخفياتها وهو عائد إلى الجملة الثانية لأنه يناسب كونه مدركا بكسر الراء على اللف والنشر المرتب، وفي هذه الآية إشارة لرؤية الله في الآخرة لا نفيها كما استدلت به المعتزلة، لأنه جل شأنه قد تمدح على عباده بذلك على طريق الإعجاز فلو لم يكن جائز الرؤية لما كان هذا التمدح واقعا لأن المعدوم لا يتمدح به ولا يلزم من عدم الرؤية مدح، ولو لم يكن جائز الرؤية لما سألها موسى عليه السلام إذ مثله لا يسأل عما لا يجوز، ويدل على جوازها تعليق الله جلت عظمته الرؤية على استقرار الجبل واستقراره جائز والمعلق على الجائز جائز، وهذا إثبات جواز الرؤية من حيث العقل ويدل عليها من الكتاب قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية ٢٣ من سورة القيامة المارة في ج ١، وقوله تعالى في حق الكفار (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية ١٦ من سورة المطففين الآتية إذ يفهم أن المؤمنين غير محجوبين عنه، قال الإمام مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر تبارك وتعالى عن الكفار بالحجاب، وقد أجمع المفسرون على أن كلمة وزيادة وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية ٢٦ من سورة يونس المارة هي رؤية الله تعالى، ومما يدل عليها من السنة كثير صحيح قدمناه في الآية ١٧ من سورة والنجم والآية ١٣ من سورة القيامة والآية ١١٤ من سورة الأعراف المارات في ج ١، أما ما تمسك به أهل البدع والأهواء والمرجئة من أنه تعالى مستحيل الرؤيا احتجاجا بمطلع هذه الآية ولأن الإدراك فيها عبارة عن الرؤية لا عدم الإحاطة كما درجت عليه أهل السنة والجماعة إذ لا فرق عندهم بين أدركته ورأيته وهو خطأ صريح، لأن الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقية الرؤية معاينة الشيء ومشاهدته لأنها قد تكون بغير إدراك، قال تعالى في قصة أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قالَ (كَلَّا) الآية ٦٢ من سورة الشعراء المارة في ج ١، وكان قوم فرعون رأوا قوم موسى إلا أنهم

صفحة رقم 386

لم يدركوهم فنفى موسى عنهم الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا، ومما لا شك فيه أن رؤية الله في الآخرة تكون من غير إدراك لاستحالة الإحاطة به لأنه منزه عن الحد والجهة والأبعاد الثلاثة والجهات الست، قال في بدء الأمالي:

يراه المؤمنون بغير كيف وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
أي يا قوم احذروا خسران المعتزلة من رؤية الله لأنهم يقولون بعدمها فجزاهم الله حرمانها جزاء وفاقا، أما إذا قالوا إنه لا يرى في الدنيا فهذا مما لا جدال فيه وما وقع لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم فهو خاص به وما عموم إلا وخص منه البعض، هذا وقد أوضحنا كيفية رؤيته تعالى وثبوتها بالصحائف المشار إليها أعلاه فراجعها ترشد لما تريده وزيادة، قال تعالى يا أيها الناس «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ» جمع بصيرة وهو نور القلب وأبصار جمع بصر وهو نور العين، وقد سمى الله تعالى آيات القرآن بصائر لأنها يهتدى بها إلى الرشد والسداد وهي بصائر القلوب الحية «مِنْ رَبِّكُمْ» لتبصروا بها حقائق الأشياء وتفقهوا مقاصدها فتعلموا المراد منها «فَمَنْ أَبْصَرَ» معانيها وآمن بها وصدق من جاء بها «فَلِنَفْسِهِ» أبصر وإياها نفع ولها عمل وتحذّر من كل سوء «وَمَنْ عَمِيَ» عنها وضل عن هداها وجهل أو تجاهل معناها ولم يستدل بها إلى الطريق المستقيم المؤدي إلى جنات النعيم «فَعَلَيْها» جنى وعمي وإياها ضر خسر وكان وبال عماه عليه، والله غني عنه «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ١٠٤» إنما علي البلاغ والإنذار والله هو الرقيب عليكم، وشاهد لأعمالكم وهو الذي يجازيكم عليها فلا يخفى عليه شيء منها، وعلى هذا فالآية محكمة، ومن قال إنها منسوخة قال في تفسيرها أنا لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل، وهو ليس بشيء، وظاهر الآية لا يحتمل هذا المعنى، وبعد أن أتم سبحانه وتعالى ما يتعلق في الإلهيّات شرح بما يدل على إثبات النبوة التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة، فابتدأ بحكاية شبه المنكرين لها فقال «وَكَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ» نكرر ونبين «الْآياتِ» الدالات على توحيدنا ونبوة أنبيائنا «وَلِيَقُولُوا» لك يا سيد الرسل «دَرَسْتَ» قرأت الكتب القديمة

صفحة رقم 387

وتعلمتها من الغير بطريق المباحثة والمداومة حتى حفظتها، وجئتنا تزعم أنه من عند الله، وأنا أعلم أنك لم تدرس شيئا ولم تتعلمه، فدع قومك وخاصتك يقولوا لك ذلك ويصموك بالكذب وهم الكاذبون، وان ما تتلوه عليهم من وحينا وتعليمنا إياك واللام هنا لام الأمر وقيل لام كي بالنظر إلى المعطوف عليه بعد، وتهمتهم هذه لحضرة الرسول هو أنه كان عبدان من سبي الروم يسار وخيبر في مكة وكانا يأتيان محمدا لأنهما من أهل الكتاب ليسمعا منه وكانا يقرآن الكتب القديمة فظن كفار مكة أن محمدا يقرأ عليهما أو يسمع منهما وأنه يتلو ما يسمعه ويقرأه على قومه، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم وردا عليهم وأين هذين من كلام الله وهما لا يفقهانه وقد تحدى الله جميع البشر على الإتيان بمثله فلم تقدر ولن تقدر. هذا، وما قيل إن المراد أنك علمت ما فقرأه من اليهود لا أصل له، لأن الآية مكية ولا يحث مع اليهود في مكة، وما قيل إن المعنى لئلا يقولوا درست لا صحة له لأنه غير مناسب للفظ ولا وجيه في المعنى ولأن حمل الإثبات على النفي تحريف وتغيير لكلام الله ولا يجوز فتح هذا الباب لما فيه من وضع المنفي مقام المثبت وبالعكس، لذلك يجب اجراء كلام الله على ما هو عليه وعدم التطاول على ما يخل بمعناه أو يزيد في مبناه بصورة قطعية «وَلِنُبَيِّنَهُ» نوضحنّ هذا القرآن المعبر عنه بالبصائر ونكشفن ما يرمي إليه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ١٠٥» أنه كلام الله منزل عليك من لدنا لم تتلقه من أحد ما، فيا أكرم الرسل «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» من هذا القرآن ولا تلتفت إلى تقولاتهم، وقل إنما هو من الله الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٠٦» من قومك المتخذين آلهة من دوني واتركهم الآن إلى أن يأتيك قضائي بينك وبينهم، وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقيه من جفاهم وتعزية لما يصمونه به وإزالة لما حصل له من الحزن بنسبة الافتراء إليه على ربه تنزه عن ذلك وتبرأ القائل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» به غيره وهذا نص بأن الإشراك بمشيئته تعالى وكذلك التوحيد والعصيان والإيمان راجع الآية ٩٨ من سورة يونس المارة، وذلك أن الله قد شاء إيمان من علم منه
اختيار الإيمان فهداه إليه فآمن، وشاء كفر من علم منه اختيار

صفحة رقم 388

الشرك فساقه إليه فكفر وهذا كله بإرادة الله وتقديره ومشيئته «وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ» يا سيد الرسل «حَفِيظاً» تحفظهم من الكفر وتراقب أعمالهم وتقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وإنما أنت مبلغ لهم ما نوحيه إليك فترغبهم بطاعة الله وترهبهم معصيته وتبشر الطائع بثواب الله وتنذر العاصي بعقابه، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا وجه له وغاية احتجاجه بالنسخ تأويل وكيل على زعمه (لم أومر بحربكم) وهو تأويل عندي لأن معنى وكيل ما ذكرناه في الآية ٦٧ المارة ليس إلا ولهذا قال تعالى «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ١٠٧» لتردهم عما قدرناه لهم كلا ولا مسيطر ولا مسلط ولا موكل من جهتهم لتدافع عنهم، قال تعالى «وَلا تَسُبُّوا» أيها المؤمنون آلهة «الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» آلهة أخرى وهذا النهي ليس لاحترام تلك الأصنام المهانة ولا لأنه لا يجوز سبها وإنما السبب فيه ما ذكره الله تعالى في جواب هذا النهي بقوله «فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً» عدوانا وهاتين الكلمتين معناهما التجاوز عن الحق إلى الباطل كأنهم بقولهم ذلك تعدوا وظلموا «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بعظمة الله وما يجب أن يذكر به وحقيقة النهي هذا هو النهي عن سب الله لا عن سب الأوثان لأن سبهم مباح ولكنه لما كان يترتب عليه سب الله وسب رسوله المتسبب عن سبّها، نهاهم الله عنه درءا لهذه المفاسد ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما أن اجتناب المناهي مفضل على فعل الأوامر، وسبب نزول هذه الآية أن المؤمنين كانوا يسبّون أوثان الكفار فيردون عليهم فنزلت بالمنع لتلك الغاية، وما قيل إنها نزلت لما نزلت آية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية ٩٩ من سورة الأنبياء الآتية قال المشركون إذ ذاك لتنتهين عن سب آلهتنا يا محمد أو لنهجونّ ربك، لا يصح، لأن هذه الآية لم تنزل بعد، وكذلك ما قاله السدي من أنه لما حضرت وفاة أبي طالب قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمرنه بنهي ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه فتوصم وصمة لا خلاص لنا منها، فانطلق منهم أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البحتري

صفحة رقم 389

إلى أبي طالب، فقالوا له أنت كبيرنا وسيدنا وإن ابن أخيك محمد قد آذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا بسوء وإنا سندعه وإلهه فدعاه فجاء فقال له يا ابن أخي قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال صلّى الله عليه وسلم أرأيتكم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدّت لكم الخراج فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا الله، فأبوا وتفرقوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فقال يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها، قال هذا صلّى الله عليه وسلم على فرض المحال إرادة إلى يأسهم، فقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمن إلهك، لا يصح هذا، لأن هذه حادثة قديمة وقعت قبل نزول هذه الآية عند وفات أبي طالب كما أشرنا إليها في الآية ٥٦ من سورة القصص في ج ١ ونوهنا بها في الآية ٢٦ من هذه السورة وبين وفاته ونزول هذه السورة ما يقارب السنتين، قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان «زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» في هذه الدنيا على علاته فرأوه حسنا إن كان خيرا وطاعة أو شرا ومعصية «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ١٠٨» فيها ويجازيهم عليه فيثيب المؤمن الجنة ويزج الكافر بالنار إن شاء وقدمنا ما يتعلق في بحث التزيين والإضلال وان الله تعالى ليس عليه رعاية الأصلح للعبد وإنما عليه لا على طريق الوجوب تبين الطريقين له راجع الآية ١٢ من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى مراجعته من الآيات المتعلقة في هذا البحث تعلم أن المزين في الحقيقة هو الله «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ» هؤلاء الكفرة «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أشدها وأوكدها «لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها» قالت
قريش يا محمد أما أخبرتنا أن صالحا أخرج لقومه ناقة من الجبل وأن موسى قلبت عصاه حية وضرب بها الحجر فتفجر الماء منها، وأن عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص؟
قال بلى، قالوا فأتنا به نصدقك ونؤمن، قال أي شيء تحبون قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا موتانا نسألهم عنك ونزل لنا الملائكة ليشهدوا نبوتك، قال صلّى الله عليه وسلم إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقون؟ قالوا نعم، والله نتبعنّك أجمعين، ثم إن

صفحة رقم 390

المسلمين سألوا رسول الله ذلك رغبة بإيمانهم فقام صلّى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يجعل الصفا ذهبا فنزل جبريل وقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إذا لم يصدقوك ينزل بهم العذاب فيستأصلهم دفعة واحدة وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: بل حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله هذه الآية وأمره بأن يقول لهم ما قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المقترحين «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» هو يأتيكم بها وليست عندي ولا لي قدرة على الإتيان بها إذا لم يشأ الله وأنتم أيها المؤمنون أعرضوا عن هذا ولا تقولوا إنهم يؤمنون، والله تعالى يقول لكم «وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ» تلك الآيات المقترحة من عند الله «لا يُؤْمِنُونَ ١٠٩» بها وحينئذ ينزل بهم العذاب ويستأصلهم كما استأصل قوم صالح إذ جرت عادة الله أن كل أمة اقترحت على نبيها آية فأعطاها الله لهم ولم يؤمنوا عذبهم جميعا وأحاط بهم عقابه الذي لا مرد له خاطب صلّى الله عليه وسلم أصحابه الذين سألوه إنزال الآيات حبا بإيمان المشركين من قومهم بما أوحى الله به إليه ليرتدعوا عن ذلك لأنهم لا يعلمون أنهم يؤمنون بها إذا نزلت ولا يعلمون أنها إذا نزلت ولم يؤمنوا يحيق بهم الداب لذلك جاءت هذه الآية إخبارا بمعرض النهي وإنما لم ينزل الله عليهم ما اقترحوه لعلمه أن أيمانهم فاجرة كاذبة وأن إيمانهم كلهم في زوايا العدم، ولم يحن الوقت لإيمان من يؤمن منهم، كما أنه لم يحن أجل تعذيب من يعذبه منهم لأن أقداره تعالى مدونة في لوحه ثابتة في علمه الأزلي لا تقدم ولا تؤخر. وهذا التفسير على قراءة لا يؤمنون بالياء وهي الأوفق للمعنى والأحسن للسياق والأليق بالسياق، وأما على قراءة (لا تُؤْمِنُونَ) بالتاء الفوقية فيكون الخطاب للمشركين وقد مشى عليها بعض المفسرين والمعول على الأول لأن المؤمنين أحبوا نزول الآيات لما رأوا قومهم قد وثقوا الأيمان لحضرة الرسول بأنهم يؤمنون إذا نزلت طمعا بإيمانهم كما ذكرنا.
مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها:
وما في الآية استفهامية إنكارية والاستفهام الإنكاري له معنيان بمعنى لم وبمعنى لا فإن كان بمعنى لم يقال وما يشعركم انّها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك والحال بخلافه. وإن كانت بمعنى لا

صفحة رقم 391

يقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون، فلذا توقعتم إيمانهم وهذا هو المراد بالآية والله أعلم، ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه، وقال بعض المفسرين إنّ لا زائدة وهو غير سديد إذ لا زائد في القرآن وكل حرف فيه له معنى لا يؤديه غيره، ويزعم هذا القائل أن لا هنا مثل لا في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) الآية ١٢ من سورة الأعراف في ج ١، وقوله تعالى (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الآية ٩٦ من سورة الأنبياء الآتيه، على أن لا فيهما غير زائدة كما مر في تفسير الآية الأولى وسيأتي في الثانية أيضا لأن المعنى مستقيم بوجودها كما ستقف عليه.
كما أنهم قدروا (لا) في الآية المفسرة آنفا عدد ١٠٥ لتصير لئلا يقولوا درست وفي (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) الآية ١٨٥ من البقرة في ج ٣، وشبهها من الآيات مع أن المعنى جار على المطلوب بدون هذا التقدير كما مر في تفسير الآية الأولى، وما سيأتي في الثانية إن شاء الله، بأن تقدير لا لا لزوم له راجع الآية ٩٦ من سورة يوسف المارة، وقال بعض المفسرين إن (إنّ) من انها بمعنى لعل كقولهم أئت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك تشتري، وقول عدي بن زيد:

أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد
أي لعلّ منيّتي، وقول امرئ القيس:
عوجوا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خزام
أي لعلّنا، وقول الأخر:
أريني جوادا مات هولا لأنني أرى ما تربني أو بخيلا مخلدا
وقول الآخر:
هل أنتم عائجون بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام
وهذا وإن كان مثله كثيرا لجريانه في كلام العرب إلا أن الآية لا تنطبق عليه ولا حاجة إلى الركون لما هو خلاف الظاهر، وأما ما احتج به من أن أبي بن كعب قرأ لعلها إذا جاءت فلا عبرة به لأنها تفسير لا قراءة، ولو فرض محالا أنها قراءة فهي شاذة، ولم تثبت في المصاحف ولم يقرأ بها غيره، لذلك فإن ما جرينا

صفحة رقم 392
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية