
قائلين: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» كما كانوا يحلفون لكم فى الدنيا إنهم مؤمنون مثلكم.
(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم، فيجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الضّير، كما كان ذلك شأنهم فى الدنيا، إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى.
ثم رد عليهم منكرا لهم فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) فيما يحلفون عليه زعما منهم أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى، كما تروّجه لدى المؤمنين فى الدنيا.
ونحو الآية قوله: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ».
ثم بين السبب الذي أوقعهم فى الردى وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال:
(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه، فلم يمكنهم من ذكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه، بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم فى دركات جهنم، وبئس المصير.
(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون فى صفتهم، إذ هم قد فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، واستبدلوا به العذاب الأليم، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)

شرح المفردات
يحادون: أي يعادون ويشاقون، فى الأذلين: أي فى جملة أذلّ خلق الله، لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر، كتب الله: أي قضى وحكم، لأغلبنّ: أي بالحجة والسيف، وأيدهم: أي قواهم، بروح من عنده: أي بنور يقذفه فى قلب من يشاء من عباده، لتحصل له الطمأنينة والسكينة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبا إنهم مؤمنون، ويمالئون المؤمنين طورا واليهود طورا آخر اكتسابا لرضا الفريقين، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان، إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم ووجوب اعتقاد باليوم الآخر، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة، لأنهم باعوا الباقي بالفاني والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدا سرمدا- بين هنا سبب خسرانهم وهو أنهم شاقوا الله ورسوله وعصوا أمرهما، فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة، إذ قد قضى بأن العزة والغلب له ولرسله، والذلة لأعدائه ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه مهما قرب بهم النسب بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو من ذى العشيرة، لأن المحادين كتبت عليهم الذلة، وأولئك كتبت لهم العزة، وقوّاهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان، وهم جند الله وناصر ودينه،

وحزب الله مفلح لا محالة وقد كتبت له السعادة فى الدارين كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ».
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه، هم فى جملة أهل الذلة، لأن الغلبة لله ولرسوله، وذلهم فى الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار كما حصل للمشركين واليهود، وفى الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم كما قال سبحانه: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ».
وفى هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم ويكتب لهم الفوز ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قضى الله وحكم فى أم الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف وما يجرى مجراهما تكون لله ورسله، فقد أهلك كثيرا من أعدائهم بأنواع من العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم (والحرب بين نبينا وبين المشركين، وإن كانت سجالا كانت العاقبة فيها له عليه الصلاة والسلام) ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه، محافظين على الحدود التي أمروا بها، وجاهدوا عدوهم جهادا خالصا لله على نحو جهاد الرسل، لا لطلب ملك وسلطان، ولا لطلب دنيا ومال.
وعن مقاتل قال: لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين:
أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».

ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله الذي له الأمر كله- قوىّ على نصر رسله لا يغلب على مراده، فمتى أراد شيئا كان ولم يجد معارضا ولا ممانعا كما قال: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا تجد قوما يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وموادّة أعداء الله ورسوله، لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، إذ من كان مؤمنا حقا لا يوالى كافرا، فمن أحب أحدا امتنع أن يوالى عدوه، والمراد من موالاته مناصحته وإرادة الخير له فى الدين والدنيا، أما المخالطة والمعاشرة فليست بمحظورة ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاء شديد، فإنا نرى الأمم الإسلامية أصبحت فى أخريات الأمم، وأبناؤها فى شمال إفريقية وفى مصر وغيرها يوالون الإفربحة وينصرونهم على أبناء جنسهم، ولو كان فى هذا ذل لهم ولدينهم وأمتهم، ولن يزول هذا إلا بالاستشعار بالعزة والكرامة القومية والدفاع عن حوزة الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بالغ فى الزجر وأبان أنه لا ينبغى لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم فى الدنيا بالمعروف، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان.
والخلاصة- إنه لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله، لأن من أحب أحدا امتنع من محبة عدوه، فإذا حصل فى القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان الصحيح وكان صاحبه منافقا.

أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتى لا ينال رحمتى من لم يوال أوليائى، ويعاد أعدائى»
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله ﷺ «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش علىّ يدا ولا نعمة فيودّه قلبى، فإنى وجدت فيما أوحيت إلىّ: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله».
قيل إن الآيات نزلت فى أبى بكر رضي الله عنه، أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدّثت أن أبا قحافة سبّ النبي ﷺ فصكه أبو بكر صكة سقط بها على وجهه، فذكر ذلك للنبى ﷺ فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ قال نعم، قال لا تعد، قال والله لو كان السيف قريبا منى لقتلته.
وقيل نزلت فى أبى عبيدة بن عبد الله الجراح، أخرج ابن أبى حاتم والطبراني وأبو نعيم فى الحلية والبيهقي فى سننه عن ابن عباس قال: جعل والد أبى عبيدة يتصدى له يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت: (لا تَجِدُ قَوْماً) الآية.
(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أولئك الذين سلفت أوصافهم أثبت الله فى قلوبهم الإيمان، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يوادّ من حادّ الله ورسوله.
وفى هذا مبالغة فى الزجر عن موادة أعداء الله.
ثم ذكر سببا آخر يمنع من موادتهم فقال:
(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي إنه قواهم بطمأنينة القلب والثبات على الحق، فلا يبالون بموادة أعداء الله ولا يأبهون لهم.
ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم فقال:
(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا.
ثم ذكر السبب فيما أفاض الله عليهم من نعمة فقال:

(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي أغدق عليهم من رحمته العاجلة والآجلة، فأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ورضوا عنه لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر فى الله تعالى- عوضهم الله بالرضا عنه، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى فقال:
(أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار الله وجنده وأهل كرامته، وهم أهل لفلاح والسعادة والنصرة فى الدنيا والآخرة.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(١) ألفة الأزواج فى المنازل.
(٢) ألفة الأصحاب فى المجالس.
(٣) الأدب مع الحكام بترك مضايقتهم، لكثرة أعمالهم.
(٤) رفق الحكام بالمحكومين إذا رأوا أمرا يثقلهم.
(٥) مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها، وبالنفاق والشقاق، فإن ذلك يضعفها ويفرق جمعها ويذلها.

سورة الحشر
هى مدنية، وعدة آيها أربع وعشرون نزلت بعد سورة البيّنة.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(١) إن فى آخر السالفة قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وفى أول هذه قال: «فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ».
(٢) إن فى السابقة ذكر من حادّ الله ورسوله، وفى أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله.
(٣) إن فى السالفة ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا، وفى هذه ذكر ما حل باليهود، وعدم غناء تولى المنافقين إياهم.
«روى أن بنى النضير كانوا قد صالحوا رسول الله ﷺ على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعت فى التوراة، لا نردّ له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف فى أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأخبر جبريل النبي ﷺ بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم فى دية المسلمين من بنى عامر عند منصرفه من بئر معونة، إذ همّوا بطرح حجر عليه فعصمه الله.
وبعد أن قتل كعب بأشهر تهيأ المسلمون لقتالهم وساروا مع رسول الله ﷺ واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم حتى إذا نزل فى بنى النضير وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا ذرنا نبكى شجونا، ثم ائتمر أمرك، فقال: اخرجوا من المدينة، فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب، ودس المنافقون عبد الله بن أبىّ وأضرابه إليهم ألا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم،