آيات من القرآن الكريم

لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

وإيجاب للكف عن التقصير والتردد في الإخلاص والبذل والاستغراق في دين الله والطاعة لله ولرسوله، أكثر وأشد من الاستغراق في متع الحياة وزينتها والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد.
ولقد تكرر تمثيل الحياة الدنيا بهذا الأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى في مواضع سابقة. وجاء هنا في معرض التنديد بالمقصرين والمترددين في الإخلاص والبذل كما جاء في المواضع السابقة في معرض الدعوة إلى الله وعدم التصامم عنها ركونا إلى ما يتمتع به المدعوون من جاء ومال وقوة دنيوية. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة إن الآيات ليست في صدد التزهيد في الدنيا وطيباتها والكسب والمال والولد. وكل ما في الأمر أن فيها تنبيها على عدم ميل المرء إلى الدنيا وجعل أعراضها أكبر همّه وقصارى آماله. وعلى عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله ونحو الناس. ويجعله يغفل عن الآخرة وحسابها وهي دار الخلود في حين أن أمد الحياة الدنيا قصير جدا بالنسبة لكل إنسان يعيش فيها. والأسلوب بهذا البيان علاج روحاني شاف يفيد الإنسان في جميع ظروفه وبخاصة حينما تطغى المادة على الروح وتغطي أغراض الدنيا الغرارة مثل الإنسانية العليا وتقسي القلوب وتنزع منها خشية الله تعالى.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
. (١) من قبل أن نبرأها: من قبل أن نخلقها. ومن المؤولين من جعل الضمير عائدا إلى النفس والأرض ومنهم من جعله عائدا إلى المصيبة. وضمير المفرد قد يجعل عودته إلى المصيبة أوجه.

صفحة رقم 324

(٢) لكيلا تأسوا: لكيلا تحزنوا.
في الآيات:
(١) تقرير وجه الخطاب فيه إلى مخاطبين قريبين بأن كل ما يقع على الأرض وما يصيب نفوس الناس من مصيبة هو في كتاب عند الله مكتوب قبل وقوعها.
وهذا من الأمور اليسيرة على الله عزّ وجلّ المتسقة مع شمول قدرته وعلمه.
(٢) وتقرير آخر بأن الله تعالى يبين لهم هذه الحقيقة حتى لا يداخلهم الحزن والأسى مما يفوتهم من خيرات ولا يبطرهم الفرح بما ينالونه من خيرات. مع التنبيه إلى أن الله تعالى لا يحب المتكبرين المتفاخرين المزهوين بما قد يحرزونه من خير ثم يبخلون عن البذل ويحرضون غيرهم على احتذاء حذوهم وبأنه غني عن الذين يعرضون عن استجابة أوامره. حميد شاكر لمن يستجيب إليها.
تعليق على الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا وتعقيبا. وأن الخطاب فيها موجّه بدوره إلى المسلمين موضوع الخطاب السابق. وهي بنوع خاص على ما تلهمه روحها بسبيل تقرير كون ما يحرزه الناس من خير وسعة رزق هو من فضل الله تعالى وليس لهم فضل فيه يبرر لهم الاغترار والتبجح والزهو والبخل به عن المحتاجين وسبيل الله. وكونهم غير قادرين على منع ضياعه وتلفه فلا موجب للبخل فيه والتقصير في واجب شكر الله عليه. وقد تلمح من هنا صلة قوية بين أهداف هذه الآيات والآيات التي ندد فيها قبل ببعض الصور غير المستحبة وبخاصة الضنّ بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله. في حين أن المال الذي في أيدي الناس هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه وحسب.

صفحة رقم 325

وروح الآيات وفحواها يلهمان أن المصيبة المذكورة فيها هي من نوع ما ليس في مقدور الناس جلبه أو دفعه. ومعظم المفسرين أداروا الكلام عليها في هذا النطاق بحيث يصح القول إنها لا صلة لها بما يصدر من الناس من أعمال يثابون ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة.
ويلمح في الآيات صفات أخرى من صفات المنافقين المرتابين المترددين المتربصين الذين كانوا موضوع الحملة والتنديد في الآيات السابقة أريد التنويه بها والتحذير منها وهي الاختيال على الناس والكبر والغرور بما حازوه، والبخل به وأمر الناس بالبخل. وهذا يفعله البخلاء في الغالب لتبرير بخلهم.
وواضح أن في الآيات تلقينات مستمرة المدى تمدّ المسلم في كل ظرف بالثقة بالله والتسليم له والصبر على ما يصيبه من بلاء وعدم الجزع والأسى والشكر على ما يناله من خير وعدم الزهو والبطر والغرور به وعدم الخوف من عواقب البذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين وعدم الارتكاس في رذيلة الحضّ على البخل ومنع الخير عن الغير في أي حال.
وقد تكررت الآيات القرآنية التي احتوت هذه التلقينات في القرآن المكي والقرآن المدني معا حيث يبدو من ذلك التساوق في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها وإسلام النفس إلى الله في كل حال وظرف. واستهداف تربية المسلم والتسامي به إلى أوج الكمال النفساني والأخلاقي.
وقد أورد المفسرون أحاديث نبوية في سياق هذه الآيات بالتنديد بالبخل والاختيال والكبر والتفاخر. ولقد أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق سور الليل ولقمان والإسراء والنساء «١» التي ورد فيها التنديد بهذه الأخلاق البغيضة ونبهنا على ما فيها من تساوق مع التلقين القرآني فنكتفي بهذه الإشارة.
هذا، ولما كانت الآيات قد جاءت بسبيل التسكين والتحذير في ظروف

(١) انظر تفسير آيات الليل [٨] ولقمان [١٨ و ١٩] والإسراء [٣٧] والنساء [٢٦ و ٢٧].

صفحة رقم 326
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية