آيات من القرآن الكريم

لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

ثم ذكر حال الآخرة، فالناس فيها إما إلى عذاب شديد دائم لأعداء الله، وإما إلى مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وهو أعظم درجات الثواب.
ثم ختم الآية تأكيدا لما سبق بأن الحياة الدنيا مجرد متاع يغرّ ويخدع من أقبل عليها، وهم الكفار، أما المؤمنون فالدنيا لهم متاع بلاغ إلى الجنة.
٢- إذا كان هذا شأن الدنيا وحال الآخرة، فما على الناس إلا العمل للآخرة، لذا أمر الله بالمسارعة بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لهم من ربهم، وتبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والجنة كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض، وقد خلقت وهيئت للذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته وبرسله.
وفي هذا تقوية للرجاء، ودليل على أن الجنة مخلوقة جاهزة. لكن لا تنال الجنة ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله، والله صاحب الفضل الواسع الكثير.
والمراد بهذه الجملة: التنبيه على عظم حال الجنة، لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما.
تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)

صفحة رقم 324

الإعراب:
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ... مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي الْأَرْضِ موضعه إما الجر على أنه صفة لمصيبة على اللفظ، أي كائنة في الأرض، وإما الرفع صفة لمصيبة على الموضع، وموضعها الرفع، لأن مِنْ زائدة، وفي الصفة ضمير يعود على الموصوف، وإما النصب على أنه متعلق ب أَصابَ أو ب مُصِيبَةٍ فلا يكون إذن فيه ضمير.
وإِلَّا فِي كِتابٍ في موضع نصب على الحال، أي إلا مكتوبا، وهاء نَبْرَأَها تعود على النفس أو على الأرض أو على المصيبة.
لِكَيْلا تَأْسَوْا.. تَأْسَوْا منصوب ب (كي) لا بتقدير (أن) بعدها، لأن اللام هنا حرف جر، وقد دخلت على (كي) فلا يجوز أن تكون (كي) حينئذ حرف جر، لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من كل مختال، أو مبتدأ، خبره محذوف دل عليه ما بعده: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأن معناه: ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غني عنه، وعن إنفاقه. وضمير هُوَ ضمير فصل.
المفردات اللغوية:
مُصِيبَةٍ هي في اللغة: كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وخصت في العرف بالشر، كالجدب والعاهة في الأرض، والمرض والآفة وفقد الولد في الأنفس. إِلَّا فِي كِتابٍ أي اللوح المحفوظ. نَبْرَأَها نخلقها. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إن إثباته في كتاب على الله سهل، لاستغنائه فيه عن العدّ والمدة. تَأْسَوْا تحزنوا. عَلى ما فاتَكُمْ من نعيم الدينا. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ فرح بطر، بل فرح شكر على النعمة، بما أعطاكم الله منها، فإن من علم أن الكل مقدّر، هان عليه الأمر. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ أي يعاقب. كُلَّ مُخْتالٍ متكبر بما أوتي.
فَخُورٍ متباه أو مباه على الناس بماله أو جاهه.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بما يجب عليهم. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بالبخل به، لهم وعيد شديد. وَمَنْ يَتَوَلَّ عما يجب عليه. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن غيره الْحَمِيدُ المحمود في ذاته، لا يضره الإعراض عن شكره، ولا ينتفع بالتقرب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق.

صفحة رقم 325

المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن كل ما في الآخرة من مغفرة وجنة من فضله ورحمته، أراد أن يبين أن كل ما في الدنيا من مصائب وأحداث بقضائه وقدره، لتهوين أمر المصيبة على المؤمنين.
ثم حذر الله تعالى من الحزن على ما فات من نعيم الدنيا، والبطر والاختيال والمباهاة عند مجيء النعمة، ثم أخبر أنه يعاقب المختالين الفخورين الذين يبخلون بما يجب عليهم شرعا، بل ويأمرون الناس بالبخل، وهؤلاء لا يجنون إلا على أنفسهم.
التفسير والبيان:
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي لا توجد مصيبة من هذه المصائب في الدنيا إلا وهي مكتوبة عند الله، فهي بقضاء وقدر، سواء أكانت مصيبة في الأرض مثل القحط والجدب أو قلة النبات، وفساد الزرع، ونقص الثمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوع، أم في الأنفس كالأمراض، والفقر وضيق المعاش، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود، فذلك كله مسطّر في اللوح المحفوظ، من قبل إيجاد هذه الخليقة.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها الأحسن عود الضمير على الخليقة والبرية أو النسمة، لدلالة الكلام عليها، كما قال ابن جرير.
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن إثباتها في الكتاب، مع كثرتها، وعلمه بالأشياء قبل وجودها، سهل يسير على الله، غير عسير، لأن الله هو الخالق، وهو أعلم بما خلق، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون. ورد في الخبر: (من عرف سر الله في القدر، هانت عليه المصائب). وقد استدل العلماء بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.

صفحة رقم 326

فالأشياء والأحداث والمصائب تنسب إلى الله الموجد لها، لا إلى أحد من البشر في الحقيقة، وأما ما يقال من التشاؤم (الطيرة) في المرأة والدابة والدار، فذلك بحسب عرف الناس وتصوراتهم ومقالاتهم، لا في واقع الأمر، كذلك السحر والعين والقتل كل ذلك يحدث بتأثير الله، فهو المؤثر والفعال الحقيقي، وأما فعل الناس فهو مجرد أمر أو سبب في الظاهر، فينسب إليه الشيء الحادث ظاهرا، لا حقيقة. وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لقصرها على أحوال الدنيا، لذا
قال صلى الله عليه وسلم: «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم الدين»
ولم يقل: إلى الأبد.
أخرج الإمام أحمد، والحاكم وصححه عن أبي حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا: «إن أبا هريرة يحدّث أن النبي ﷺ كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار»، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ﷺ ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله ﷺ يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار»، ثم قرأت: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ الآية.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا، ولا تفرحوا فرح بطر بما هو آت، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك من قدر الله ورزقه لكم، لذا قال تعالى:
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي إن الله يعاقب كل مختال في نفسه، أي متكبر، فخور على غيره، أي مباه بماله أو جاهه.
وبه يتبين أن الحزن المذموم: هو الذي لا صبر لدى صاحبه، ولا رضا

صفحة رقم 327

بقضاء الله وقدره، والفرح الممنوع: هو البطر الذي يحمل صاحبه على الطغيان، ويلهيه عن الشكر. قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا.
ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر كالفرح والحزن والغضب، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب وتعاطي أسبابه، أو على توابع الفرح والحزن وهو بطر النعمة وكفرانها، والسخط على القدر، والجزع.
وبما أن المختال الفخور يكون غالبا بخيلا، لأنه لا يرى لغيره حقا عليه، ذكر تعالى صفة البخل عندهم، فقال:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي إن المختالين الفخورين هم الذين يبخلون عادة بأموالهم، فلا يؤدون حق الله فيها، ولا يواسون بائسا فقيرا، ولا معدما عاجزا، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال، ويحسّنون للناس أن يبخلوا بما يملكون، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا. ولكن من يعرض عن الإنفاق وعن أمر الله وطاعته، فإن الله غني عنه، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه، لا يضره ذلك، ولا يضرن البخيل إلا نفسه، كما قال موسى عليه السلام لقوم فيما حكى القرآن: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كل ما في الكون بأمر الله تعالى، وكل المصائب معلومة لله تعالى، مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخليقة، وحفظ ذلك وعلمه هيّن يسير على الله تعالى.

صفحة رقم 328

٢- إذا كان الكل مكتوبا مقدرا لا مرد له، هانت المصائب على الناس، وكان عليهم امتثال الأمر، فلا يحزنوا على ما فاتهم من الرزق، ولا يفرحوا بما أوتوا من الدنيا. روى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا «١». والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما المرء إلى ما لا يجوز. وقد تقدم أن الفرح المذموم: هو الموجب للبطر والاختيال، أي التكبر. وأن الحزن الممنوع: هو الذي يخرج صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين.
٣- إن الله يبغض كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس ولا يرضى عنه، ويعاقبه.
٤- إن الله لا يحب المختالين الذين يبخلون أو يضنون بالمال عما أوجب الله عليهم من الإنفاق في سبيله، والصدقة به على الفقراء والمساكين، ويأمرون الناس بالبخل مثلهم.
٥- من يعرض عن الإنفاق وعن طاعة الله والإيمان بما قدر وقضى فإن الله غني عنه وعن إنفاقه، والله سبحانه هو الغني المطلق الغنى الذي يرزق عباده، والمحمود في ذاته في السماء والأرض، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر ٣٥/ ١٥] ولا يضره الإعراض عن شكره، بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله.

(١) أخرجه الحاكم وصححه وغيره.

صفحة رقم 329
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية