آيات من القرآن الكريم

تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪ ﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙ

لا يَمَسُّهُ هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في الْمُطَهَّرُونَ من هم؟..
فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة..
وقيل المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر، وقد روى مالك وغيره أن رسول الله ﷺ كان في كتابه الذي كتبه إلى شرحبيل بن كلال... «ألا يمس القرآن إلا طاهر».
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فقام واغتسل. ثم أخذ الصحيفة التي بيدها، وفيها القرآن.
ثم قال: واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء: فالجمهور على المنع...
وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن. لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبى وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على طهارة، جاز أن يحمله محدثا «١».
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة بقوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: هذا الكتاب الكريم منزل من رب العالمين، لا رب سواه، ولا خالق غيره، وبذلك يرى: أن هذه الآيات الكريمة، قد وصف الله- تعالى- فيها القرآن الكريم، بجملة من الصفات الجليلة، فقد وصفه- سبحانه- بأنه كريم، ووصفه بأنه مصون ومحفوظ من أن يمسه أحد سوى ملائكته المقربين، وسوى عباده المطهرين من الأحداث، ووصفه بأنه منزل من عنده لا من عند أحد سواه كما زعم أولئك الجاهلون.
ثم تتحدث السورة في أواخرها. بأسلوب مؤثر، عن لحظات الموت. وعن اللحظات التي يفارق الإنسان فيها هذه الحياة، وأحباؤه من حوله لا يملكون له نفعا.. وعن بيان الحالة التي يكون عليها هذا المفارق لهم، فتقول:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨١ الى ٩٦]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٢٦.

صفحة رقم 185

والاستفهام في قوله- تعالى-: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ للإنكار والتوبيخ.
وهو داخل على مقدر.
والمراد بالحديث: القرآن الكريم، وما تضمنه من هدايات وإرشادات وتشريعات..
وقوله: مُدْهِنُونَ من الإدهان وأصله جعل الجلد ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ليلين، ثم صار حقيقة عرفية في الملاينة والمسايرة والمداراة ومنه قوله- تعالى-: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
والمراد به هنا: تظاهر المشركين بمهادنة الرسول ﷺ وبما جاء به من قرآن كريم، وإبداؤهم من اللين خلاف ما يبطنون من المكر والبغضاء.
ويصح أن يكون الإدهان هنا: بمعنى التكذيب والنفاق، إذ أن هذه المعاني- أيضا- تتولد عن المداهنة والمسايرة.
أى: أتعرضون- أيها المشركون- عن الحق الذي جاءكم به رسولنا ﷺ فتظهرون أمامه بمظهر المداهن والمهادن، الذي يلين أمام خصمه، ولا يقابله بالشدة والحزم: مع أنه في الوقت نفسه يضمر له أشد أنواع السوء والكراهية؟..
إذا كان هذا شأنكم، فاعلموا أن تصرفكم هذا لا يخفى علينا؟!..
وقوله- سبحانه- وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون معطوف على ما قبله من باب عطف الجملة على الجملة. والكلام على حذف مضاف.
والمعنى: أتعرضون عن هذا القرآن على سبل المداهنة والملاينة، وتجعلون شكر نعمة رزقنا

صفحة رقم 186

لكم به. وبالمطر الذي لا حياة لكم بدونه، أنكم تكذبون بكونهما من عند الله- تعالى- فتقولون في شأن القرآن، أساطير الأولين، وتقولون إذا ما أنزلنا المطر عليكم: مطرنا بسبب نوء كذا. أى: بسبب سقوط النجم في جهة المغرب من الفجر.
قال الآلوسى: قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أى: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، تقولون أمطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا وأكثر الروايات أن قوله- تعالى-: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ نزل في القائلين: مطرنا بنوء كذا.. أخرج مسلم- في صحيحه- عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله ﷺ فقال صلى الله عليه وسلم:
أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
ثم قال الإمام الآلوسى: والآية على القول بنزولها في قائلى ذلك: ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان، فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر، وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله- تعالى-، وأن النوء ميقات وعلامة فإنه ليس بكفر.. «١».
وقد ذكر المفسرون هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى فارجع إليها إن شئت.. «٢».
ثم انتقلت الآيات إلى توبيخهم على أمر آخر، وهو غفلتهم عن قدرة الله- تعالى- ووحدانيته وهم يشاهدون آثار قدرته أمام أعينهم فقال- تعالى-: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
ولو في الموضعين للتحضيض على التذكر والاعتبار، ولإبراز عجزهم في أوضح صورة، إذ إظهار عجزهم هو المقصود هنا بالحض..
وقوله إِذا بَلَغَتِ ظرف متعلق بقوله تَرْجِعُونَها أى: تردونها، وقد قدم عليه لتهويله، والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه، وهو إرجاع الروح إلى صاحبها.
والضمير في بَلَّغْتَ يعود إلى الروح، وهي وإن كانت لم تذكر إلا أنها مفهومه من الكلام.

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٥٦.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٩. وتفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٢٨.

صفحة رقم 187

والحلقوم: مجرى الطعام وأل فيه للعهد الجنسي.
وجملة: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ حال من ضمير بَلَغَتِ، ومفعول تَنْظُرُونَ محذوف والتقدير: تنظرون وتبصرون صاحب الروح وهو في تلك الحالة العصيبة.
وجملة تَرْجِعُونَها... جواب الشرطين في قوله: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وجملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ مستأنفة لتأكيد توبيخهم على جهالاتهم وعدم اعتبارهم حتى في أوضح المواقف التي تدل على قدرة خالقهم- عز وجل-.
والمعنى: إذا كنتم- أيها الجاحدون المكذبون- لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب وترهيب على لسان رسولنا محمد ﷺ فهلا اعتبرتم واتعظتم وآمنتم بوحدانيتنا وقدرتنا.. حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم، وقد بلغت روحه حلقومه، وأوشكت على أن تفارق جسده...
وَأَنْتُمْ أيها المحيطون بهذا المحتضر العزيز عليكم حِينَئِذٍ أى: حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة التي تنذر بقرب نهايته، أنتم تَنْظُرُونَ إلى ما يقاسيه من غمرات الموت، وتبصرون ما فيه من شدة وكرب، وتحرصون كل الحرص على إنجائه مما حل به ولكن حرصكم يذهب أدراج الرياح.
وَنَحْنُ في هذه الحالة وغيرها، أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أى: ونحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقدرتنا، حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه من أهوال ولا تدركون عظيم ما فيه من كرب، ولا تقدرون على رفع شيء من قضائنا فيه وفي غيره.
وقوله: وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ استدراك للكلام السابق. أى: ونحن أقرب إلى هذا المحتضر منكم، ولكنكم لا تدركون ذلك لجهلكم بقدرتنا النافذة، وحكمتنا البالغة..
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أى: فهلا إن كنتم غير عاجزين عن رد قضائنا في هذا المحتضر الحبيب إليكم، وغير مربوبين لنا، وخاضعين لسلطاننا.. يقال: دان السلطان الرعية، إذا ساسهم وأخضعهم لنفوذه.
هلا إن كنتم غير خاضعين لنا تَرْجِعُونَها أى: ترجعون الروح إلى صاحبها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم بأن آلهتكم تستطيع الدفاع عنكم وفي اعتقادكم أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت، وفي توهمكم أن هناك قوة سوى قوة الله- عز وجل- يمكنها أن تساعدكم عند الشدائد والمحن.

صفحة رقم 188

وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة، تقيم أوضح الأدلة وأكثرها تأثيرا في النفوس، على كمال قدرة الله- تعالى- وعلى نفاذ مشيئته وإرادته...
فهي تتحدى البشر جميعا أن يعيدوا الروح إلى أحب الناس إليهم، وهم واقفون من حوله وقفة الحائر المستسلم. العاجز عن فعل أى شيء من شأنه أن يدفع عن هذا المحتضر ما فيه من كرب، أو أن يؤخر انتزاع روحه من جسده، ولو لزمن قليل..
ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك، في بيان مصير هذه الروح، التي توشك أن تستدبر الحياة الفانية، وتستقبل الحياة الباقية فتقول: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ.
والروح: بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة.
أى: فأما إن كان صاحب هذه النفس التي فارقت الدنيا، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات.. فله عندنا راحة لا تقاربها راحة، وله رحمة واسعة، وله طيب رائحة عند قبض روحه، وعند نزوله في قبره، وعند وقوفه بين أيدينا للحساب يوم الدين، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وَأَمَّا إن كان هذا الإنسان مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وهم الذين ثقلت موازين حسناتهم..
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أى: فتقول له الملائكة عند قبض روحه وفي قبره، وفي الجنة، سلام لك يا صاحب اليمين، من أمثالك أصحاب اليمين.
قال الآلوسى: وقوله: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قيل هو على تقدير القول.
أى: فيقال لذلك المتوفى منهم: سلام لك يا صحاب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين.
وجوز أن يكون المعنى: فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير. أى: كن فارغ البال من جهتهم فإنهم بخير.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة، كلام يفيد عظمة حالهم، كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان، إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل.. «١».
وَأَمَّا إِنْ كانَ هذا المتوفى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وهم أصحاب الشمال فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أى: فله نزل- أى: مكان- مِنْ حَمِيمٍ أى: من ماء قد بلغ أقصى

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٦٠.

صفحة رقم 189

درجات الحرارة وعبر عن المكان الذي ينزل فيه بالنزل، على سبل التهكم، إذا النزل في الأصل يطلق على ما يقدم للضيف على سبل التكريم..
وقوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أى: وله- أيضا- إدخال في نار جهنم التي تشوى جسده وتحرقه.
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أى: إن هذا الذي قصصناه عليك- أيها الرسول الكريم- في هذه السورة وغيرها، لهو الحق الثابت الذي لا يحوم حوله شك أو ريب..
فقوله: حَقُّ الْيَقِينِ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أى: لهو اليقين الحق..
أو هو من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، كما في قوله- تعالى-: حَبْلِ الْوَرِيدِ إذ الحبل هو الوريد، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- فنزه ربك العظيم في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، عن كل ما لا يليق به..
وبعد فهذا تفسير لسورة «الواقعة» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة- قطر صباح الأربعاء ١٦ من رجب سنة ١٤٠٦ هـ ٢٦/ ٣/ ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى

صفحة رقم 190

تفسير سورة الحديد

صفحة رقم 191

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد
١- سورة «الحديد» هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب المصحف، وسميت بذلك لقوله- تعالى- فيها: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.
وعدد آياتها تسع وعشرون آية في المصحف الكوفي، وثمان وعشرون في غيره.
٢- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية، فابن كثير والقرطبي يقولان بأنها مدنية، ولا يذكران خلافا في ذلك.
بينما نرى صاحب الكشاف يقول إنها مكية، ولا يذكر- أيضا- خلافا في ذلك.
ومن المفسرين من يرى بأن سورة الحديد منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني.
قال الآلوسى: أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره: هي مدنية بإجماع المفسرين، ولم يسلم له ذلك، فقد قال قوم إنها مكية.
وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا. لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا..
ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده، والطبراني وابن مردويه.. عن عمر- رضى الله عنه- أنه دخل على أخته قبل أن يسلم، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد، فقرأه حتى بلغ قوله- تعالى-: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فأسلم «١».
والذي يبدولنا- بعد تدبرنا لهذه السورة الكريمة- أنها يغلب عليها طابع القرآن المدني، الذي يتحدث عن الجهاد في سبيل الله، وعن الإنفاق من أجل إعلاء كلمته، وعن سوء مصير المنافقين، وعن إرشاد المؤمنين إلى كيفية إقامة الدولة القوية العادلة.. وهذا لا يمنع من أن يكون من بين آياتها ما هو مكي، متى ثبت ذلك عن طريق النقل الصحيح.
٣- وقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن الله- تعالى- قد نزهه عن كل ما لا يليق به، جميع ما في السموات وما في الأرض، وأنه- عز وجل- هو مالكها، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن والمحيي والمميت والخالق لكل شيء، والعليم بكل شيء.
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٦٤.

صفحة رقم 193

قال- تعالى-: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
٤- ثم حضت السورة الكريمة المؤمنين على الثبات على إيمانهم، وعلى الإنفاق في سبيل الله، ووعدتهم على ذلك بأجزل الثواب.
قال- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
٥- ثم تتحدث السورة الكريمة بعد ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر، عن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المنافقين، فتحكى جانبا مما يدور بين الفريقين من محاورات فتقول:
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ، يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا: بَلى، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
٦- وبعد أن تنتقل السورة الكريمة إلى حث المؤمنين على الخشوع لله، وعلى تذكر الموت، وعلى البذل في سبيل الله... بعد كل ذلك تبين لهم مصير الحياة الدنيا، وتدعوهم إلى إيثار الآجلة على العاجلة، والباقية على الفانية فتقول: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ، سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
٧- ثم تقرر السورة بعد ذلك أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأنه- سبحانه- قد أرسل رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم بنشر العدل بين الناس، كما أمرهم بإعداد القوة لإرهاب أعداء الحق، لأن الناس في كل زمان ومكان فيهم المهتدون، وفيهم الضالون، كما قال- تعالى-: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
٨- ثم ختم- سبحانه- السورة بهذا النداء الحكيم للمؤمنين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

صفحة رقم 194

٩- وبعد، فهذا عرض مجمل لسورة «الحديد» ومنه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة الله- تعالى-، وعن صفاته الجليلة.. وعن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم، تمسكا يكون مقدما على كل شيء من زينة هذه الحياة الدنيا، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم، وينالون بسببه الفوز والفلاح في أخراهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الدوحة- قطر مساء الأربعاء ١٦ من رجب سنة ١٤٠٦ هـ ٢٦/ ٣/ ١٩٨٦ د. محمد سيد طنطاوى

صفحة رقم 195
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية