
على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع. فأمّا المُزْن، فهي السَّحاب، واحدتها: مُزْنة. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: الَّتِي تُورُونَ قال أبو عبيدة: أي تستخرجون، من أَوْرَيت، وأكثر ما يقال: وَرَيت.
وقال ابن قتيبة: «تورون» أي: تقدحون، تقول: أَوريتُ النّار: إذا قدحتها.
قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها في المراد بشجَرَتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها الشجرة التي تتّخد منها الزُّنود، وهو خشب يُحَكُّ بعضُه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج. والثالث: أن شجرتها: أصلُها، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً قال المفسرون: إذا رآها الرّائي ذكر نار جهنّم، وما يخافه من عذابها، فاستجار بالله منها وَمَتاعاً أي: منفعة لِلْمُقْوِينَ وفيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. قال ابن قتيبة: سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى، وهو القفر. وقال بعض العلماء: المسافرون أكثر حاجة إِليها من المقيمين، لأنهم إِذا أوقدوها هربت منهم السّباع واهتدى بها الضال. والثاني: أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد. والثالث: أنهم الجائعون. ، قال ابن زيد:
المقوي: الجائع في كلام العرب. والرابع: أنهم الذين لا زاد معهم ولا مال لهم، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: «فسبّح باسم ربك» أي: برّئ الله ونزّهه عما يقولون في وصفه. وقال الضحاك: معناه:
فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير. وقال ابن جرير: سبح بذكر ربك وتسميته. وقيل: الباء زائدة. والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى: فسبّح ربّك.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ في «لا» قولان: أحدهما: أنها دخلت توكيداً. والمعنى:
فأقسم، ومثله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «١»، قاله الزجاج، وهو مذهب سعيد بن جبير. والثاني: أنها على أصلها. ثم في معناها قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدّم، ومعناه: النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي. والثاني: أنّ «لا» ردّا لما تقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري. وقرأ الحسن: فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة.
قوله عزّ وجلّ: بِمَواقِعِ وقرأ حمزة، والكسائي: «بموقع» على التوحيد. قال أبو علي:
مواقعها: مساقطها. ومَنْ أَفْرَدَ، فلأنه اسم جنس. ومَنْ جَمَعَ فلاختلاف ذلك. وفي «النجوم» قولان:
أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون. فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال: أحدها: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن. والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة. والثالث: مغيبها في

المغرب، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها نجوم القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فعلى هذا سميت نجوماً لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها. قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ الهاء كناية عن القسم. وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عِظَمَهُ. ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان والهدى والحكمة، وهو معظّم عند الله عزّ وجلّ.
قوله عزّ وجلّ: فِي كِتابٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس. والثاني:
أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة. وفي «المكنون» قولان: أحدهما: مستور من الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول. والثاني: مصون، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من قال: إنَّه اللوح المحفوظ، فالمطهرون عنده:
الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد وسعيد بن جبير. فعلى هذا يكون الكلام خبراً.
ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال «١» : أحدها: أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور. فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي. والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب.
والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء.
قوله عزّ وجلّ: تَنْزِيلٌ أي: هو تنزيل. والمعنى: هو منزل، فسمّي المنزّل تنزيلا على اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر، وللمخلوق: خلق.
قوله عزّ وجلّ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فيه قولان: أحدهما: مكذّبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء. والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة:
المدهن: المداهن وكذلك قال ابن قتيبة «مدهنون» أي: مداهنون. يقال: أدهن في دينه، وداهن.
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
(١٣٩٢) روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٧/ ١٩٥: واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسّه لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسّه المحدث وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسّه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلّمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع من الممنوع. وفيما كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسّه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن عليّ أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قيصر وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين:
أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.