٤- ومن ألوان عذاب هؤلاء الضالين عن الهدى، المكذبين بالبعث أكلهم من شجر الزقوم: وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، حتى يملئوا بطونهم منه، ثم شربهم على الزقوم من الحميم: وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه، وهو صديد أهل النار، وليس شربهم كالمعتاد، وإنما يشربون شرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها.
والمراد: أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم، ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحميم كالإبل الهيم.
٥- هذا رزقهم الذي يعدّ لهم يوم الجزاء يَوْمَ الدِّينِ في جهنم، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمة لهم، وفي هذا الوصف تهكم، كما في قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة ٩/ ٣٤].
أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٧٤]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
الإعراب:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَأَنْتُمْ | نَحْنُ الْخالِقُونَ في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، ومستأنفة على أنها بصرية. |
المفعول الثاني.
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أصله: ظللتم، يقرأ بفتح الظاء وكسرها، فمن قرأ بالفتح حذف اللام الأولى بحركتها تخفيفا، ومن قرأ بالكسر نقل حركة اللام الأولى إلى الظاء، وحذفها، وهما لغتان.
المفردات اللغوية:
فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالخلق متيقنين، تقيمون الدليل على التصديق بالأعمال الدالة عليه، أو فلولا تصدقون وتقرون بالبعث والإعادة، كما أقررتم بالنشأة الأولى، وهي خلقهم، فإن من قدر على الإبداء قادر على الإعادة. ما تُمْنُونَ ما تقذفونه أو تصبونه من المني في الأرحام. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلون المني بشرا سويا تام الخلق. قَدَّرْنا قضينا وأقّتنا موت كل واحد بوقت معين. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت، أو لا يغلبنا أحد، فلسنا بعاجزين.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
نخلق أشباهكم وقوله: عَلى
إما متعلق بقوله: نَحْنُ قَدَّرْنا أي نحن قادرون، قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي بموت طائفة، ونبدلها بطائفة قرنا بعد قرن، وهذا قول الطبري. وإما متعلق بمسبوقين، أي لا نسبق على أن نبدل أمثالكم جمع مثل، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من الصفات، أي نحن قادرون على أن نعدمكم أو نميتكم، وننشئ أمثالكم، وعلى تغيير أوصافكم، مما لا يحيط به فكركم «١».
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
نخلقكم خلقا آخر لا تعلمونه وأطوارا لا تعهدونها، أو نخلق صفات لا تعلمونها.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي علمتم الخلقة الأولى، فهلا تتذكرون أن من قدر عليها، قدر على النشأة الأخرى، لسبق المثال، وفيه دليل على صحة القياس.
تَحْرُثُونَ تثيرون الأرض وتلقون البذور فيها. تَزْرَعُونَهُ تنبتونه، من الزرع:
الإنبات. الزَّارِعُونَ المنبتون. حُطاماً هشيما هالكا متكسرا. فَظَلْتُمْ أصله ظللتم،
أي أقمتم نهارا. تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله، وتندمون على اجتهادكم فيه. لَمُغْرَمُونَ ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا، أو مهلكون، لهلاك رزقنا، من الغرم: وهو الهلاك.
مَحْرُومُونَ ممنوعون رزقنا، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين).
الْمُزْنِ السحاب، جمع مزنة. الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا. أُجاجاً ملحا لا يمكن شربه.
فَلَوْلا تَشْكُرُونَ فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. تُورُونَ تقدحون، أو تخرجونها نارا. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها الشجرة التي منها الزناد، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. جَعَلْناها جعلنا نار الزناد. تَذْكِرَةً أنموذجا لنار جهنم، أو تبصرة في أمر البعث، أو تذكيرا. وَمَتاعاً منفعة. لِلْمُقْوِينَ للمسافرين، مأخوذ من أقوى القوم:
الذين ينزلون القواء، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. فَسَبِّحْ نزّه. بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه الله تعالى، وقل: سبحان الله العظيم، وأحدث التسبيح بذكر اسمه، أو بذكره، فإن إطلاق اسم الشيء: ذكره، والْعَظِيمِ: صفة للاسم أو الرب.
المناسبة:
بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة، ومآل كل صنف، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة، وقرر المعاد، وأثبت البعث والجزاء.
التفسير والبيان:
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأنتم تعلمون ذلك، فهلا تصدقون بالبعث، كما تقرّون بالخلق، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟
وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه
فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق، أم الله الخالق لذلك، المقدر المصور له؟! نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم، فمنكم من يموت كبيرا، ومنكم من يموت صغيرا، ولكن الكل سواء فيه، وما نحن بمغلوبين، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم، لتستمر الحياة البشرية، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم.
وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث، وصدق الرسل في الحشر، لأن قوله: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى، ولما كان قادرا على الخلق أولا، كان قادرا على الخلق ثانيا.
ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق، فقال:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من هيكل عظمي، ثم كساكم باللحم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧]، وقال سبحانه: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم ١٩/ ٦٧]، وقال عزّ وجلّ: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
[يس ٣٦/ ٧٩]، وقال عزّ اسمه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً! أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ [القيامة ٧٥/ ٣٦- ٤٠].
وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية، بالتذكير بالنشأة الأولى، ليكون تذكيرا بعد تذكير.
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته، فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم، فتطرحون فيه البذر، والحرث: شق الأرض وإلقاء البذر فيها، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ.
وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء، وفيه أمور ثلاثة: المأكول المذكور هنا أولا، لأنه هو الغذاء، ثم ذكر المشروب، لأن به الاستمراء، ثم النار التي بها الإصلاح.
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لأيبسناه، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون، والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك
زرعنا، لسوء حظنا، والمحروم: الممنوع من الرزق، وهو ضدّ المرزوق.
ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب، فقال:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تقرّون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث؟
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا، فهو محض النعمة، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا، تشربون منه وتنتفعون به، كما قال تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٠- ١١].
روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي ﷺ أنه كان إذا شرب الماء، قال: «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا».
ثم ذكر النار أداة الإصلاح، فقال:
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران، ويحك أحدهما بالآخر، فيتناثر من بينهما شرر النار.
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أي نحن جعلنا هذه النار تذكركم حر نار جهنم الكبرى، ليتعظ بها المؤمن، ونفعا للمسافرين وأهل البادية النازلين في الأراضي المقفرة.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي ﷺ قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا:
يا رسول الله، إن كانت لكافية فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».
وخصص المقوون، أي المسافرون بالذكر، لشدة حاجتهم إلى النار، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم، لما
رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله ﷺ قال: «المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء».
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة، فخلق الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق، ولم يفدهم الإيمان، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه، بعلمه بربّه، وعمله لربّه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا: دليل الخلق، ودليل الرزق.
أما دليل ابتداء الخلق: فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة، ثم من العلقة، ثم من المضغة، دون أن نكون شيئا، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى، والتقاء نطفتي الرجل
والمرأة، ثم القرار في الأرحام، والمرور بأطوار الخلق إلى أن يكتمل الإنسان بشرا سويا تام الخلق. وإذا أقرّ الناس بأن الله هو خالقهم لا غيرهم، فعليهم الإقرار والاعتراف بالبعث.
والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث.
والله عزّ وجلّ قادر على خلق الأجيال، جيلا بعد جيل، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم، وصورهم وهيئاتهم، والقادر على ذلك قادر على الإعادة.
جاء في الخبر: «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى، وهو لا يسعى لدار القرار» «١».
وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء، بطريق الاستفهام المراد به الطلب، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم، فتطرحون فيها البذر، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا، فيكون فيه السنبل والحبّ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد، والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وإنباته باختياره، لا باختيارهم.
أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان- وضعفه- وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي ﷺ أنه قال: «لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت، فإن الزارع هو الله»
قال أبو هريرة: ألم
تسمعوا قول الله تعالى: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟. وهذا نهي إرشاد وأدب، لا نهي حظر وإيجاب.
والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة:
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد، وارزقنا ثمره، وجنّبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك.
والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع، وفي هذا تنبيه على أمرين: أحدهما- ما أولاهم به من النّعم في زرعهم، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه، الثاني- ليعتبروا بذلك في أنفسهم، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا.
وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض، فيعجب من ذهاب الزرع، ويندم مما حلّ به، ويقول: إنني لخاسر مغرم، أو لمعذب هالك، محروم مما طلبت من الريع والربح.
ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة، والتابع للمطعوم، فهو نعمة عظمي، والله هو الذي أنزله من السحاب، لإحياء النفوس، وإرواء العطش، وإذا عرف أن الله أنزله، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟
والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله، ونعمة أخرى.
ثم ذكر الله تعالى النار التي بها الإصلاح، فهي أيضا نعمة، والله هو الذي أنشأ شجرتها التي يكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، وإذا عرف أن الله هو المخترع الخالق، وعرفت قدرته على خلق الأشياء، فليشكروه ولا ينكروا قدرته على البعث.
ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس.
وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده، فقال في الأولى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي الثانية: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً وفي الثالثة: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها، بل قال: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً تتعظون بها، ولا تنسون نار جهنم، كما
أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها».