
صاحبه لذلك لا لكون طعامه وافراً وشرابه لذيذاً.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس.
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
شرح الكلمات:
نحن خلقناكم: أي أوجدناكم من العدم.
فلولا تصدقون: أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة بعد الفناء والبلى.
أفرأيتم ما تمنون: أي الذي تصبونه من المني بالجماع في أرحام نسائكم.

أأنتم تخلقونه: أي بشراً أم نحن الخالقون له بشراً.
نحن قدرنا بينكم الموت: أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وعجلنا لكل واحد أجلاً معيناً لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال.
وما نحن بمسبوقين: أي بعاجزين.
على أن نبدل أمثالكم: أي ما أنتم عليه من الخلق والصور.
وننشئكم فيما لا تعلمون: أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه.
ولقد علمتم النشأة الأولى: أي ولقد علمتم خلقنا لكم كيف تم وكيف كان.
أفلا تذكرون: فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم.
أفرأيتم ما تحرثون: أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها.
أأنتم تزرعونه: أي تنبتونه.
أم نحن الزارعون: أي نحن المنبتون له يقال زرعه الله أي أنبته.
لو نشاء لجعلناه حطاما: أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاماً يابساً بعد أن أصبح سنبلاً وقارب أن يفرك فتحرمون منه.
فظلتم تفكهون: أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم.
إنا لمغرمون: أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به.
بل نحن محرومون: أي لسنا بمعذبين به وإنما نحن محرومون من زرعنا وما بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين.
أفرأيتم الماء الذي تشربون: أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه.
أأنتم أنزلتموه من المزن: أي من السحاب في السماء إلى الأرض.
أم نحن المنزلون: أي له إلى الأرض.
لو نشاء لجعلناه أجاجا: أي ملحاً مراً لا يمكن شربه.

فلولا تشكرون: أي فهلا تشكرون أي الله بالإيمان والطاعة.
أفرأيتم النار التي تورون: أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر.
أأنتم أنشأتم شجرتها: أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ.
أم نحن المنشئون: أي نحن المنشئون لتلك الأشجار.
نحن جعلناها تذكرة: أي جعلنا تلك النار تذكرة أي تذكر بنار جهنم.
ومتاعاً للمقوين١: أي بلغةً للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم.
فسبح باسم ربك العظيم: أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم أو الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم.
معنى الآيات:
السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى ﴿نَحْنُ٢ خَلَقْنَاكُمْ﴾ وأنتم معترفون بذلك إذ لما نسألكم من خلقكم تقولون الله. إذاً ﴿فَلَوْلا ٣تُصَدِّقُونَ﴾ أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة. وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولاً ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع ﴿أَأَنْتُمْ٤ تَخْلُقُونَهُ﴾ ولداً ﴿أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ والجواب نحن الخالقون إذاً القادر على خلقكم بواسطة هذا الإمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريق آخر وثانيا ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له. بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم٢
موقع هذه الجملة: الاستدلال والتعليل لما تضمنه جملة ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ من عقيدة البعث والجزاء وتقريرها.
٣ الفاء للتفريع فالجملة متفرعة عن قوله تعالى ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ وهي متضمنة للتحضيض على التصديق بالبعث الآخر إذ لولا هنا للتحضيض على ذلك.
٤ الاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا الإقرار بأن خالق الجنين من نطفة هو الله.

بلى وثالثاً ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ١ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقاً ذميما وقبيحاً كالقردة والخنازير، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذاً عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجزيكم ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ كيف تمت لكم بما لا تنكرونه.
إذاً ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإعادة ليست بأصعب من الإنشاء من عدم لا من وجود. ورابعاً ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ ٢ من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع ﴿أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ له أي المنبتون والجواب معروف وهو أننا نحن الزارعون لا أنتم. إذاً فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه لو نشاء لجعلناه بعد نضرته وقرب حصاده حطاما يابساً لا تنتفعون منه بشيء٣ فظلتم تفكهون متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به٤ ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين. إن أنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم في الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا. وسادسا الماء الذي تشربون وحياتكم متوقفة عليه أخبروني ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ﴾ من السحاب ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولاً وثانياً لو نشأ لجعلنا الماء ملحاً مراً لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإحسان منا إليكم بالإيمان بنا والطاعة لنا. وسابعا النار التي تورون وتشعلونها أخبروني ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على
كأنك لم تسبق من الدهر مرة
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
٢ الشبه قوي بين تحويل النطفة إلى جنين، والحبة إلى نبات فهي مناسبة عجيبة بين الدليلين.
٣ أصل (فظلمتم) فظللتم فحذت إحدى اللامين تخفيفاً كما حذفت إحدى التاءين من (تفكهون) إذ الأصل (تتفكهون).
٤ هذا بناء على ا، الغرام: هو العذاب كقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ أو هو من الغرامة التي هي ذهاب مال المرء وأخذه منه بغير عوض.

سلوككم ويجزيكم به. وقوله تعالى ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا﴾ أي النار ﴿تَذْكِرَةً﴾ لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضاً متاعاً أي بلغة للمقوين١ المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم. فالقادر على الخلق والإيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به.
وقوله تعالى ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ٢ الْعَظِيمِ﴾ بعد إقامة الحجة على منكري البعث بالأدلة العقلية أمر تعالى رسوله أن يسبح ربه أي ينزهه عن اللعب عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك. إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلابد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها إلا سفيه هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا.
٣- بيان منن الله تعالى على عباده في طعامهم وشرابهم.
٤- وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه.
٥- في النار التي توقدها عبرة، وعظة للمتقين.
٦- وجوب تسبيح٣ الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك.
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)
٢ الباء في باسم: زائدة لتوكيد اللصوق أي: اتصال الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب والتعقيب، واسم الرب هو الله الدال على ذاته سبحانه وتعالى، والتسبيح. التنزيه عما لا يليق ولفظه سبحان الله أي: ننزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث.
٣ في الصحيح: "لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم" قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجعلوها في ركوعكم" فكان المصلي إذا ركع قال: سبحان ربي العظيم ثلاثاً أو أكثر امتثالا لأمر الله ورسوله".