آيات من القرآن الكريم

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ
ﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺ

عَلَّمَهُ اى القرآن الرسول اى نزل به عليه وقرأه عليه وبينه له هذا على أن يكون الوحى بمعنى الكتاب وان كان بمعنى الإلهام فتعليمه بتبليغه الى قلبه فيكون كقوله نزل به الروح الامين على قلبك شَدِيدُ الْقُوى من اضافة الصفة الى فاعلها مثل حسن الوجه والموصوف محذوف اى ملك شديد قواه وهو جبريل فانه الواسطة في ابداء الخوارق ويكفيك دليلا على شدة قوته انه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها الى السماء حتى سمع اهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها وصاح بثمود صيحة فاصبحوا جاثمين ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقبات الأرض المقدسة فنفخه نفخة بجناحه يعنى باد زد ويرا بجناح خود بادى وألقاه في أقصى جبل في الهند وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في اسرع من رجعة الطرف ذُو مِرَّةٍ اى حصافة يعنى استحكام في عقله ورأيه ومتانة في دينه قال الراغب أمررت الحبل إذا فتلته والمرير والممر المفتول ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل وفي القاموس المرة بالكسر قوة الخلق وشدة والجمع مرر وإمرار والعقل والاصالة والاحكام والقوة وطاقة الحبل كالمريرة وذو مرة جبريل عليه السلام والمريرة الحبل الشديد الفتل فَاسْتَوى عطف على علمه بطريق التفسير فانه الى قوله ما اوحى بيان لكيفية التعليم اى فاستقام جبريل واستقر على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح موشحا اى مزينا بالجواهر دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحى كصورة دحية امير العرب وكما اتى ابراهيم عليه السلام في صورة الضيف وداود عليه السلام في صورة الخصم وذلك ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجبل حرآء وهو الجبل المسمى بجبل النور في قرب مكة فقال ان الأرض لا تسعنى ولكن انظر الى السماء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض من المغرب وملأ الأفق فخر رسول الله كما خر موسى في جبل الطور فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه الى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وذلك فان الجسد وهو في الدنيا لا يتحمل رؤية ما هو خارج عن طور العقل فمنها رؤية الملك على صورة جبل عليها وأعظم منها رؤية الله تعالى في هذه الدار قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير نبينا عليه السلام فانه رآه فيها مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لما سيأتى (وروى) ان حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه قال يا رسول الله أرنى جبرائيل في صورته فقال انك لا تستطيع أن تنظر اليه قال بلى يا رسول الله أرنيه فقعد ونزل جبرائيل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها إذا طافوا فقال عليه السلام ارفع طرفك يا حمزة فانظر فرفع عينيه فاذا قدماه كالزبرجد الأخضر فخر مغشيا عليه (وروى) انه رآه على فرس والدنيا بين كلكلها وفي وجهه أخدود من البكاء لو ألقيت السفن فيه لجرت وانما رآه عليه السلام مرتين ليكمل له الأمر مرة في عالم الكون والفساد واخرى في المحل الأنزه الأعلى وانما قام بصورته ليؤكدان ما يأتيه فى صورة دحية هو هو فانه إذا رآه في صورة نفسه عرفه حق معرفته ولم يبق عليه اشتباه

صفحة رقم 214

بوجه ما وفي كشف الاسرار فان قيل كيف يجوز أن يغير الملك صورة نفسه وهل يقدر غير الله على تغيير صورة المخلوقين وقد قلتم ان جبرائيل أتى رسول الله مرة في صورة رجل ومرة في صورته التي ابتدأه الله عليها وان إبليس أتى قريشا في صورة شيخ من اهل نجد فالجواب عنه تغيير الصور الذي هو تغيير التركيب والتأليف لا يقدر عليه الا الله واما صفة جبرائيل ففعل الله تعالى تنبيها للمصطفى عليه السلام وليعلم انه امر من الله إذ رآه في صور مختلفة فان ذلك لا يقدر عليه الا الله وهو ان يراه مرة قد سد الأفق واخرى يجمعه مكان ضيق واما إبليس فكان ذلك منه تخييلا للناظرين وتمويها دون التحقيق كفعل السحرة بالعصى والحبال قال الله تعالى فاذا حبالهم وعصيهم يخيل اليه من سحرهم انها تسعى انتهى
ما في الكشف وقال في آكام المرجان قال القاضي ابو يعلى ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور اى صور الانس والبهائم والطير وانما يجوز ان يعلمهم الله تعالى كلمات وضربا من ضروب الافعال إذا فعله وتكلم به نقله الله من صورة الى صورة فيقال انه قادر على التصور والتخييل على معنى انه قادر على قول إذا قاله او على فعل إذا فعله نقله الله من صورته الى صورة اخرى بجرى العادة واما يصور نفسه فذلك محال لان انتقالها من صورة الى صورة انما يكون بنقض البنية وتفريق الاجزاء وإذا انتقضت بطل الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة فكيف ينقل نفسه قال والقول في تشكيل الملائكة من ذلك انتهى وقال والهى الاسكوبى فيه ان من قال تمثل جبريل وتصور إبليس ليس مراده انهما أحدثا تلك الصورة والمثال عن قدرة أنفسهما بل باقدار الله على التمثيل والتصوير كيف يشاء فلا منافاة بين القولين غاية ما في الباب ان العامل عن طريق أقدار الله به من الأسباب المخصوصة انتهى وقال في انسان العيون فان قيل إذا جاء جبريل على صورة الآدمي دحية او غيره بل هى الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه على يصير جسده الأصلي حيا من غير روح أو ميتا أجيب بأن الجائى يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لانه يجوز ان الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأى شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثمة قال الحافظ ابن حجر ان تمثل الملك رجلا ليس معناه ان ذاته انقلبت رجلا بل معناه انه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه والظاهر ان القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة انه لا مانع ولا بعد ان الحق تعالى يظهر في صورة على وأولاده الاثني عشر رضى الله عنهم ويجوز ان يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن ان يجعل الله لروح الملك قوة يقتدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الابدال لأنهم يرحلون الى مكان ويقيمون فى مكانهم شبحا آخر شبيها لشبحهم الأصلي بدلا منه وقد ذكر ابن السبكى في الطبقات ان كرامات الأولياء انواع وعد منها ان يكون له أجساد متعددة قال وهذا هو الذي يسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره اى كواقعة الشيخ عبد القادر الطبحطوطى فقد ذكر الجلال السيوطي انه رفع اليه سؤال في رجل حلف بالطلاق ان ولى الله الشيخ عبد القادر

صفحة رقم 215

الطبحطوطى بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق انه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما فأرسلت قاصدى الى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك فقال لو قال أربعون انى بت عندهم لصدقوا فأفتيت بأنه لا حنث على واحد منهما لان تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان قال الشعراني وأخبرني من صحب الشيخ محمد الخضرى انه خطب فى خمسين بلدة في يوم واحد خطبة الجمعة وصلّى بهم اماما واما الشيخ حسين ابو على المدفون بمصر المحروسة فأخبرنى عنه أصحابه ان التطور كان دأبه ليلا ونهارا حتى في صور السباع والبهائم ودخل عليه بعض أعدائه ليقتلوه فوجدوه فقطعوه بالسيوف ليلا ورموه على كوم بعيد ثم أصبحوا فوجدوه قائما يصلى وفي جواهر الشعراني وصورة التطور ان يقدر الله الروح على تدبير ما شاءت من الأجسام المتعددة بخلعة كن فللاولياء ذلك في الدنيا بحكم حرق العادة واما في الآخرة فان نفس نشأة اهل الجنة تعطى ذلك فيدبر الواحد الأجسام المتعددة كما يدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن فتكون تسمع وأنت تبصر وتبطش وتمشى ونحو ذلك وفي الفتوحات المكية والذي أعطاه الكشف الصحيح ان أجسام اهل الجنة تنطوى في أرواحهم فتكون الأرواح ظروفا للاجسام عكس ما كانت في الدنيا فيكون الظهور والحكم في الدار الآخرة للجسم لا للروح ولهذا يتحولون في اى صورة شاؤا كما هو اليوم عندنا للملائكة وعالم الأرواح انتهى وفي انسان العيون عالم المثال عالم متوسط بين عالم الأجساد والأرواح الطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح فالارواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال وهذا الجواب اولى من جواب ابن حجر بأن جبرائيل كان يندمج بعضه في
بعض وهل مجيئ جبرائيل في صورة دحية كان في المدينة بعد اسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فانه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه قال الشيخ الأكبر رضى الله عنه دحية الكلبي كان أجمل اهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته اعلاما من الله تعالى انه ما بينى وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهى التي عندى فيكون ذلك بشرى له عليه السلام ولا سيما إذا اتى بأمر الوعيد والزجر فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحرك ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه الا على تلك الصورة الا ان يدعى انه من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره بقي هنا كلام وهو ان السهيلي رحمه الله ذكر ان المراد بالاجنحة في حق الملائكة صفة ملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب انتهى يقول الفقير هذا كلام عقلى ولا منع من ان يجمع الملك بين قوة روحانية وبين جناح يليق بعالمه سوآء كان ذلك كجناح الطير او غيره فان المعقولات مع المحسوسات تدور والجمع انسب بالحكمة والصق بالقدرة وقد أسلفنا مثل هذا في أوائل سورة الملائكة فلا كلام فيه عند اولى الألباب وانما يقتضى المقام ان يبين وجه كون جناح جبريل ستمائة لا أزيد ولا انقص ولم اظفر ببيانه لا في كلام اهل الرسوم ولا في إشارات اهل الحقائق والذي

صفحة رقم 216
روح البيان
عرض الكتاب
المؤلف
إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي , المولى أبو الفداء
الناشر
دار الفكر - بيروت
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية