
أنفسهم إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن محمدا ﷺ افتراه.
فإن كان شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص، فليأتوا بمثل ما أتى به.
إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٣٥ الى ٤٣]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
البلاغة:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم.
المفردات اللغوية:
مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق، فلذلك لا يعبدونه. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ الذين خلقوا أنفسهم؟ وبما أنه لا يعقل مخلوق بغير خالق، ولا معدوم يخلق، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله ﷺ وكتابه الكريم؟! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهم لا يستطيعون ذلك، فلا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق القادر، فلم لا يعبدونه؟! بَلْ لا يُوقِنُونَ به، وإلا لآمنوا بنبيه، ولو أيقنوا بأن الخالق هو الله لما أعرضوا عن عبادته.

خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه، حتى يرزقوا النبوة والرزق وغيرهما، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. الْمُصَيْطِرُونَ القاهرون الغالبون على الأشياء المسلطون عليها يدبرونها كيف شاؤوا، من سيطر على كذا: إذا تسلط عليه وأقام عليه، مثل بيطر وبيقر. سُلَّمٌ مرتقى إلى السماء، والسلم: كل ما يتوصل به إلى غيره من الأماكن العالية. يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يستمعون عليه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن، وينازعوا النبي ﷺ بزعمهم إن ادعوا ذلك. بِسُلْطانٍ بحجة قوية. مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدّق استماعه.
أَمْ لَهُ الْبَناتُ بزعمكم. وَلَكُمُ الْبَنُونَ الذكور، فيه تسفيه آرائهم وإشعارهم بأن من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا عن الاطلاع على الغيوب. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أم تطلب منهم أجرة على تبليغ الرسالة. مَغْرَمٍ من التزام غرامة أو غرم: وهو التزام الإنسان ما ليس عليه.
مُثْقَلُونَ محملون الثقل، فلذلك زهدوا في اتباعك ولم يسلموا.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب. فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذلك ويحكمون بناء عليه. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً تدبير مكيدة وشر، وهو كيدهم في دار الندوة. فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم والخصوص، فيشمل جميع الكفار، أو كفار قريش، فيكون ذلك تسجيلا للكفر عليهم.
الْمَكِيدُونَ المغلوبون المهلكون، الذين يحيق بهم الكيد، أو يعود وبال كيدهم عليهم، وهو قتلهم يوم بدر. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله، وهو اسم علم للتسبيح. عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو شركة ما يشركون به وعن الذين يشركون.
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على ما زعم كفار قريش من أن محمدا كاهن أو شاعر أو مجنون، ذكر الدليل من الأنفس والآفاق على صدقه، وإبطال تكذيبهم لرسالته، وإنكارهم للخالق، وإثبات التوحيد بخلقهم وخلق السموات والأرض، علما بأن إثبات الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.
ثم طمأن الله نبيه بأن كيدهم له لا يضره شيئا، وأن الله ناصره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون.

التفسير والبيان:
هذه الآيات لإثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ هذا رد على إنكار الخالق الواحد، فهل وجدوا من غير موجد، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ وإذا كان الأمران منتفيين بشهادة العقل والحس والواقع وبإقرارهم، فالله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ وهل خلقوا السموات والأرض وما فيهما من العجائب والغرائب وأسباب الحياة والمعيشة؟ إنهم في الواقع لا يستطيعون ادعاء ذلك، والحقيقة أن عدم إيقانهم من قولهم بأن الله هو الخالق هو الذي حملهم على التكذيب وإنكار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو أيقنوا حقا بأن الله هو الخالق ما أعرضوا عن عبادته.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي هل هم يملكون خزائن الله من النبوة والرزق وغيرهما، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك، بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء يصعدون به، أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟
فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد ﷺ بالبرهان الدال على صدقه. الواقع ليس لهم سبيل إلى ذلك، فليس لهم دليل ولا حجة على ما يقولون.

وبعد الرد على إنكار الألوهية، رد الله تعالى على من قال: الملائكة بنات الله، فقال:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أي بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فمن كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، ولا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد.
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغك الرسالة، فهم من التزام غرامة تطلبها منهم محمّلون غرما ثقيلا، فلا يسلمون ولا يجيبون دعوتك؟ الواقع لست تسألهم على ذلك شيئا، ولا تطلب منهم أدنى شيء يشق عليهم ويثقلهم. وهذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب؟ ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال قتادة: لما قالوا: نتربص به ريب المنون، قال الله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حتى علموا متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى ما يؤول إليه أمره.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي إن كنتم تعلمون الغيب فأنتم كاذبون، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه، فأنتم غالطون، فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم، فإن كنتم تريدون تدبيرا أو مكرا برسول الله ﷺ لإهلاكه، فالكافرون هم الممكور بهم، المجزيون بكيدهم. ولام فَالَّذِينَ كَفَرُوا لهؤلاء الكفار أو للجنس، فيشملهم وغيرهم. وتنكير الكيد إشارة إلى وقوع العذاب بغتة من حيث لا يشعرون. وصرح بقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا للدلالة على كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره، لا في مقابلة إرادته الكيد.

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدونه سواه. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله، وتنزيه الله نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن إثبات وجود الله ووحدانيته وقدرته على الحشر هو خلق الأنفس والآفاق، أي خلق الإنسان والحيوان والنبات من غير سابق وجود، وخلق السموات والأرض بعد العدم، فالخلق دليل على وجود الله تعالى، وهو الدليل الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم، كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٧].
والانفراد بالخلق دليل على وحدانية الخالق، لأن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. والخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.
وإذا أقر الكفار بأن ثمّ خالقا، فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث.
وهم يقرون بأنه لا يعقل وجودهم من غير رب خلقهم وقدّرهم، كما يقرون إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض بأنه هو الله، فلم لا يوقنون بالحق، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥].
٢- أنكر القرآن على الكفار اعتراضهم على نبوة محمد ﷺ بأنه هل عندهم خزائن الرحمة والغيب والرزق حتى يختاروا للنبوة من أرادوه، أو أنهم المصيطرون على العالم الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم؟

٣- ثم أنكر القرآن على الكفار قدرتهم على شيء من علم الغيب، ومضمون ذلك: أيدّعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا يستمعون الأخبار، ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد ﷺ بطريق الوحي، فإذا صح ذلك فليأت مستمعهم على صحة ادعائه بحجة بيّنة أن هذا الذي هم عليه حق.
وهذا تتميم للدليل السابق لإثبات النبوة.
٤- سفّه القرآن أحلام كفار قريش وأمثالهم وقرّعهم ووبخهم في قولهم:
الملائكة بنات الله، وهذا إشارة إلى نفي الشرك. فهل يعقل أن يكون لله البنات، وللبشر البنون؟ ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث.
٥- ثم أكد الحق سبحانه صدق نبوة عبده محمد ﷺ بدليل أنه لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، فهم من المغرم الذي يطالبهم به مجهدون لما كلفهم به. ثم أضاف دليلا آخر وهو أنه ليس عندهم علم بالغيب يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيب.
٦- أخبر الله تعالى بأنه عاصم نبيه محمدا ﷺ من السوء والشر ومكائد أعدائه، فإنهم إن أرادوا به شرا ومكيدة ومكرا كما دبروا في دار الندوة، فإنهم المهزومون المغلوبون الممكور بهم الذين يعود عليهم وبال الكيد: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر ٣٥/ ٤٣] وذلك أنهم قتلوا ببدر، وأظهر الله دين الإسلام.
٧- أعاد الله تعالى إثبات التوحيد ونفي الشرك، فقال موبخا: هل لهم إله غير الله يخلق ويرزق ويمنع، تنزّه الله وتعالى وتقدس عن نسبة الشرك له أو أن يكون له شريك، فإن الشريك دليل العجز، والإله الحق يتميز بالقدرة المطلقة التي تشمل الكون كله وما فيه من مخلوقات حتى تصح الدينونة والخضوع والانقياد والعبادة له دون غيره.