تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٢ الى ٦٠]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
الاعراب:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في كَذلِكَ في موضع رفع، لأنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك.
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْمَتِينُ بالرفع: صفة ل ذُو وقرئ بالجر على أنه صفة للقوة، وذكّر، لأنه تأنيث غير حقيقي، ولأن فعيل يصلح صفة للمذكر والمؤنث، والرفع أشهر في القراءة، وأقوى في القياس.
البلاغة:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إطناب بتكرار فعل أُرِيدُ للمبالغة والتأكيد.
ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ تشبيه مرسل مجمل، لأنه حذف منه وجه الشبه، أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والألم.
المفردات اللغوية:
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم إياه ساحرا
أو مجنونا. ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... الآية كالتفسير له، أي مثل تكذيبهم لك بقولهم: إنك ساحر أو مجنون تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك.
أَتَواصَوْا بِهِ أي هل أوصى أولهم آخرهم؟ استفهام بمعنى النفي على سبيل التعجب، أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول، حتى قالوه كلهم. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول طغيانهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم وعن مجادلتهم بعد الإصرار والعناد. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لست ملوما على الإعراض عنهم، لأنك بلّغتهم الرسالة وبذلت الجهد في التذكير. وَذَكِّرْ داوم على التذكير والموعظة بالقرآن. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ: من علم الله تعالى أنه يؤمن، فإن التذكير يزيده بصيرة.
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلا لنأمرهم بالعبادة ويعبدوا الله بالفعل لا لاحتياجي إليهم، فإن أعرض أو قصر بعضهم أو أكثرهم فعليه تبعة فعله. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ.. لا أريد منهم الاستعانة بهم على تحصيل أرزاقهم ومعايشهم لأنفسهم أو غيرهم وهو أولى. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أن يطعموا أنفسهم أو غيرهم. والمراد بيان أن شأن الله مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم يملكونهم للاستخدام في حوائجهم الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل محتاج، وفيه إيماء باستغنائه عن الرزق. الْمَتِينُ الشديد القوة.
ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم. ذَنُوباً نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب في اللغة: الدّلو العظيمة المملوءة ماء. مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظائرهم من الأمم السالفة، الهالكين قبلهم. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة، وهو جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك ٦٧/ ٢٥]. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي هلاك لهم وشدة عذاب. مِنْ يَوْمِهِمُ في يومهم وهو يوم القيامة.
سبب النزول نزول الآيتين (٥٤، ٥٥) :
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.. وَذَكِّرْ..: أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال: لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي ﷺ أن يتولى عنهم، فنزلت:
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الآية، اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله تعالى: وَذَكِّرْ، فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.
المناسبة:
بعد بيان الأدلة على الحشر، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله، لذا أمر النبي ﷺ بالإعراض عنهم، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله، لا لتحصيل المعايش والأرزاق، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم، والعذاب واقع بهم، لا شك فيه، ولا مردّ له.
التفسير والبيان:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي كما كذبك قومك من العرب، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
وهذا تسلية للرسول ﷺ عن إعراض قومه، وحمله على الصبر وتحمل الأذى.
أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي، فهو تعجيب من حالهم يراد به: كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكن هم قوم طغاة، جمعهم الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الكفر، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي أعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن
جدالهم، فقد فعلت ما أمرك الله به، وبلّغت رسالته، وما أنت بملوم عند الله بعد هذا، لأنك قد أدّيت ما عليك، وما على الرسول إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي ولكن تابع التذكير، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك، فإن التذكير ينفعهم، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى، لا يوجب ترك البعض الآخر.
ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين: وهي العبادة، مع أن المشركين كذبوا الرسول، وتركوا عبادة الخالق، فقال:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ما خلقت الثقلين: الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة ٩/ ٣١] وكما
ورد: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» «١».
والعبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة.
وقال مجاهد: المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها.
وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس.
ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق، فقال:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، كما
تريده السادة عادة من عبيدهم، فإن الله هو الغني المعطي، الرزاق المعطي، الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، وهو ذو القدرة والقوة، والشديد القوة، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة.
وما في قوله: ما أُرِيدُ.. للنفي في الحال، ولا: للنفي في الاستقبال، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة.
والخلاصة: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك».
وورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء».
ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله:
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه، وواقع لا محالة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل ١٦/ ١].
وهذا جواب قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك ٦٧/ ٢٥] وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود ١١/ ٣٢].
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فهلاك وشدة عذاب للكافرين في يوم القيامة الذي يوعدون به، وقيل: اليوم يوم بدر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن تكذيب الرسل شأن الأمم قديمها وحديثها، فكما كذب محمدا قومه، وقالوا: ساحر أو مجنون، كذّب من قبلهم رسلهم، وقالوا مثل قولهم، وكأن أولهم أوصى آخرهم بالتكذيب، والتواطؤ عليه، والواقع ليس كذلك، فلم يوص بعضهم بعضا، بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر.
والغرض من الخبر تسلية النبي ﷺ عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.
٢- أمر الله نبيه بالإعراض عن جدال قومه، وطمأنه ربه بأنه غير ملوم.
ولا مقصر، فقد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. وهذه تسلية أخرى، لأن النبي ﷺ كان من كرم أخلاقه وشدة حساسيته ينسب نفسه إلى تقصير في التبليغ، فيجتهد في الإنذار والتبليغ.
٣- لكن التولي عن القوم ليس مطلقا، لذا أمر النبي ﷺ بمتابعة التذكير، فإنه ينفع المؤمنين، وهم من علم الله سابقا أنهم يؤمنون.
٤- وغاية التذكير: توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة، فيكون التذكير بها ضروريا، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان، وفائدة العبادة: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله.
ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين: عبادة الله، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية: وهو بيان سوء صنيع الكفار، حيث تركوا
عبادة الله، مع أن خلقهم ما كان إلا للعبادة.
وقال مجاهد وغيره «إلا ليعبدون» أي إلا للعبادة، وهذا كما قال الثعلبي قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم، لما عرف وجود الله وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف ٤٣/ ٨٧]. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف ٤٣/ ٩]. وهذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك.
٥- لم يكن خلق الناس للعبادة لحاجة من الخالق، فالله عز وجل غني عن عبادة العباد، ولم يكن خلقهم للتسخير للخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه، كما يفعل السادة مع العبيد، وهو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره، وهو القدير الشديد القوي، الذي لا يتقوى بأحد.
وقوله: هُوَ الرَّزَّاقُ تعليل لعدم طلب الرزق، وقوله: ذُو الْقُوَّةِ تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقا، يكون فقيرا محتاجا، ومن يطلب عملا من غيره، يكون عاجزا لا قوة له.
٦- إن للذين ظلموا أنفسهم وهم كفار مكة وأمثالهم نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة، فلا داعي لاستعجالهم نزول العذاب بهم، فإنه آتيهم لا محالة.
وهذا تهديد للكفار الذين وصفهم الله بأنهم ظلمة، لأن من وضع نفسه في موضع عبادة غير الله، يكون قد وضع الشيء في غير موضعه، فيكون ظالما.
وإذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة، فإن الذين ظلموا بعبادة غير الله، لهم هلاك مثل هلاك من تقدم.
ومناسبة الذّنوب التي هي في الأصل: الدلو العظيمة: هي كأنه تعالى قال:
نصبّ من فوق رؤوسهم ذنوبا كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطورمكيّة، وهي تسع وأربعون آية.
تسميتها:
سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم الله تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار، كالذي كلّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال.
مناسبتها لما قبلها:
تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه:
١- تشابه الموضوع: فإن كلتا السورتين مكية، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة، والرسالة النبوية، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة.
٢- تماثل الابتداء والانتهاء: ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات ٥١/ ١٥]. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور ٥٢/ ١٧] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات ٥١/ ٦٠]. فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور ٥٢/ ٤٢].
٣- اتحاد القسم بآية كونية: ففي الذاريات أقسم الله بالرياح الذاريات صفحة رقم 52
النافعة في المعاش، وفي الطور أقسم الله بالجبل الذي حظي بالنور الإلهي بتكليم موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه لنفع الناس في المعاش والمعاد.
٤- تطابق الأمر للنبي ﷺ بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين: ففي الذاريات: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [٥٤] وَذَكِّرْ.. [٥٥] وفي الطور: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ.. [٢٩] : فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ..
[٤٥].
ما اشتملت عليه السورة:
لما ختم الله تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود، أقسم على ذلك بالطور، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه السلام، والكتاب المسطور: التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ، والبيت المعمور: الكعبة المشرفة، والسقف المرفوع: السماء، والبحر المسجور: المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه.
ثم وصف الله تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون، وما يلقونه من الذل والإهانة، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين.
وأعقب هذا الوصف أمر النبي ﷺ بمتابعة التذكير، وتبليغ الرسالة، وإنذار الكفرة، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه: إنه شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو مفتر على الله، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام البراهين والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية، ونعى على المشركين قولهم: الملائكة بنات الله، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول ﷺ بترك الكفار في ضلالهم حتى