
وَقَوْلُهُ: مِنْهُ صفة ل نَذِيرٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ فَصَارَتْ حَالًا.
وَحَرْفُ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ مَأْمُورٌ لَهُ بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ.
وَعَطْفُ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عَلَى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ نَهْيٌ عَنْ نِسْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ بِنَفْيِ الضِّدِّ لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩].
وَمِنْ لَطَائِفِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ جَمَعَ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِم والمرسل.
[٥٢]
[سُورَة الذاريات (٥١) : آيَة ٥٢]
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)
كَلِمَةُ كَذلِكَ فَصْلُ خِطَابٍ تدل على انْتِهَاء حَدِيثٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ، أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى حَدِيثٍ قَبْلَهُ أَتَى عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ. وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يُورَدُ بَعْدَهُ حَدِيثٌ آخَرُ وَالسَّامِعُ يَرُدُّ كُلًّا إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُتَّصِلًا بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ.
أُعْقِبَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حلّ بالأمم المكذبين لرسل اللَّهِ مِنْ قَبْلِهِمْ بِتَنْظِيرِهِمْ بِهِمْ فِي مَقَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُرُودُ كَذلِكَ فَصْلًا لِلْخِطَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١]، فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ فَصْلٌ وَجُمْلَةُ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَخ مبدأ اسْتِئْنَافٍ عَوْدًا إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْركين فِي قَوْلهم الْمُخْتَلِفِ بِأَنْوَاعِ التَّكْذِيبِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: ٨] الْآيَةَ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِمُ الْمُخْتَلِفِ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ فِي مَحَلِّ حَالٍ وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ كَحَالِ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مِمَّنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ أَنْ يَصِفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ فَكَذَلِكَ سَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ عَنْ قَوْلِكَ:
«فِرُّوا إِلَى اللَّهِ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ» بِمِثْلِ جَوَابِ مَنْ قَبْلَهُمْ فَلَا مَطْمَعَ فِي ارْعِوَائِهِمْ عَنْ عِنَادِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْأُمَمُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَضَمِيرُ
قَبْلِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ.
وَزِيَادَةُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَسُولٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ قَالَ فِيهِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِهِ: هُوَ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَجْنُونٌ، مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ دُونَ السِّحْرِ إِذْ لَمْ يَكُنِ السِّحْرُ مَعْرُوفًا فِي زَمَانِهِمْ قَالُوا:
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٥]. وَقَدْ يَجْمَعُونَ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي مُوسَى.
وَهَذَا الْعُمُومُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ قَوْمٌ مِنَ الْأَقْوَامِ الْمَذْكُورِينَ إِلَّا قَالُوا لِرَسُولِهِمْ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِلَفْظِهِ أَوْ بِمُرَادِفِهِ كَقَوْلِ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٤].
وَأَوَّلُ الرُّسُلِ هُوَ نُوحٌ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الشَّفَاعَةِ. فَلَا يُرَدُّ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُكَذِّبْهُ أَهْلُهُ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ وَأَشْعِيَا، لَمْ يُكَذِّبْهُمْ قَوْمُهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: مِنْ رَسُولٍ، وَالرَّسُولُ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيءِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ قَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.