
﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ﴾ آيات أيضاً ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ هذه الآيات؛ فتعتبرون بها، وتدينون بخالقها وموجدها فإنكم لو تأملتم ما تنبته الأرض من النبات، وفكرتم فيما تخرجه من الأقوات: تضعون الحبة فيخرج لكم منها المئات، وتضعون البذرة فينشىء لكم منها البساتين والجنات؛ إلى غير ذلك من اختلاف الطعوم والألون، والهيئات؛ لو تأملتم ذلك بعين الفكرة والتبصرة؛ لما وسعكم إلا أن تقولوا: وفي الأرض آيات وأي آيات
ولو تأملتم في أنفسكم لوجدتم العجب العجاب؛ انظروا مثلاً كيف أنشأكم الله تعالى ابتداء من طين، ثم كيف خلقكم من نطفة في قرار مكين بل انظروا إلى النطفة نفسها، وكيف يتكون منها الجنين؛ الذي لا يتكون إلا من الاتحاد الذي يتم بين جرثومة الذكر وبويضة الأنثى، وبذلك تتكون خلية؛ يحدث انقسام بينها إلى خليتين، ثم انقسام آخر لكل من الخليتين، ثم آخر للمنقسمين، وآخر وآخر؛ وهكذا دواليك؛ إلى أن يصل العدد إلى أربعين جيلاً من الخلايا؛ حتى يزيد مجموع الخلايا - التي يتكون منها الإنسان الواحد - عن سكان الكرة الأرضية بأكثر من ألف مرة. وكل خلية من هذه الخلايا تعيش بمعزل عن الأخريات؛ وكل منها بمثابة مصنع للإنتاج؛ فمنها ما ينتج الشعر، ومنها ما ينتج الأظافر، ومنها ما ينتج العظام، ومنها ما ينتج الدم، وهكذا. ومتى نضجت هذه الخلايا، واكتمل نموها: تخصص كل منها في تكوين نوع واحد من الأنسجة والأعضاء. هذا وقد أصبح من السهل جداً - تحت المجهر - التفريق بين الخلايا المكونة للكبد، والخلايا المكونة للكلى؛ بالرغم من أن مهمة العضوين تكاد تكون واحدة: هي الاشتراك في عملية التغييرات الكيميائية في الجسم.
ومن هذه الخلايا ما ينتج الجهاز العصبي؛ الذي يتوقف عليه إيصال الرسائل من الحواس والأعضاء المختلفة إلى المخ؛ ومن المخ تنتقل الرسائل - التي هي بمثابة أوامر وأحكام - إلى العضل والأطراف؛ التي تتحرك

بموجبها - تبعاً للظروف المحيطة بالإنسان - أو إلى الغدد الجمة؛ فتفرز سائلاً معيناً - وفقاً للحالة التي يجابهها الشخص - كالدموع، واللعاب، والأدرينالين.
مثال ذلك: إذا أبصر إنسان لصاً أمامه بيده خنجر: فإن الجهاز العصبي يوجه إلى المخ إشارة بذلك الخطر المحدق؛ فتتلقى الجوارح من المخ إشارة بما يجب اتباعه. وقد يشير المخ - تبعاً للسلوك الشخصي للإنسان - بالفرار من اللص؛ أو بالهجوم عليه وانتزاع الخنجر من يده، أو بمبادرته بطلقة من مسدس، أو ضربة من عصا ونحوها. على أن الزمن الذي تستغرقه هذه الرسائل - الذاهبة والآيبة - يدق على أي آلة أو أداة لاسلكية أو الكترونية؛ وفي الوقت ذاته لا يتجاوز جزء من مائة من الثانية.
فعلاقة الحواس بالمخ علاقة ثابتة ما ثبت الوعي والإدراك؛ الذي يتفرع منهما التمييز، والتصور، والذاكرة، والتعليل، والطموح، وإدراك الهدف.
ولا يخفى ما في خلقة المخ من أعاجيب وغرائب؛ فمن أعجب الأعاجيب: اختزان العلوم والمعارف، والمدارك، والمحفوظات؛ واستخراج ما يراد من ذلك من سجلاتها المرتبة المبوبة في ظرف قد لا يتجاوز ارتداد الطرف؛ بوساطة ذبذبات يعجز اللسان عن وصفها، ويضيق الجنان عن الإحاطة بها
هذا وقد دل الفحص المجهري على أن عدد الخيوط العصبية في المخ يتجاوز عشرة آلاف مليون. كل واحد منها تدب فيه الحياة، ويحمل وظيفة عضوية يؤديها على أكمل وجه
وعلى هذا المنوال تؤدي أجسامنا - بما احتوته من أعضاء - وظائفها ذات الأهداف المتباينة؛ بغير وعي منها، الأمر الذي يدل دلالة قطعية على أن هناك إرادة عليا تسيرها وتوجهها
ولو لم يكن في بديع صنع الإنسان: سوى أنه يأكل الطعام، ويشرب الشراب؛ في مدخل واحد؛ ثم يخرج كلاهما من مخرج منفصل عن الآخر؛ لكفى ذلك عجباً وناهيك بما يفعله الجسم بالطعام والشراب حين يهضمهما، ويأخذ أطايبهما؛ ثم يلقي بنفايتهما؛ بعد أن يستنفذ وقوده، ويأخذ حاجته، ويستوعب كفايته ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
ولو تأملتم في حواسكم: لوجدتم أعجب العجب انظروا مثلاً إلى حاسة اللمس؛ وكيف أنكم تستطيعون بها الفرق بين الناعم والخشن، والبارد والحار، واللين والرخو. وانظروا أيضاً إلى حاسة الشم؛ وكيف تستطيعون بواسطتها معرفة ذكي الرائحة من رديئها، وطيب النكهة من فاسدها.

وانظروا أيضاً إلى حاسة الذوق، وكيف تستدلون بواسطتها إلى تذوق الأصناف والطعوم، ومعرفة الحلو والحامض، والمر، والمالح.
وكذلك البصر؛ وانطباع المرئيات عليه، وانعكاسها على صفحة المخ لتترك أثرها.
وكذلك السمع؛ وانقلاب المسموعات إلى مفهومات، وانطباع هذه المفهومات في حافظة المخ؛ لتزودكم به، وقت حاجتكم إليه. وهكذا سائر الأعضاء بما وهبها الله تعالى من مزايا يضيق الخاطر عن حصر فوائدها ومنافعها
فإذا ما فكر الإنسان في خلقة نفسه، ودقة حواسه، وتأمل هذه الآلات والأدوات؛ التي صاغها الخلاق العليم، وبرأها المدبر الحكيم وهل يستطيع الإنسان - بما أوتي من علم ومال، وجاه وسلطان - أن يستعيض عن أحدها لو سلبها، أو أن يردها بعد تلفها، أو أن يفهم كنهها، ويعرف سر تركيبها حقاً لو تأمل الإنسان بعض ذلك؛ لما وسعه إلا أن يقول: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾