
وفتنت الذهب أحرقته، ولما كان لا يحرق إلا لمعنى الاختبار قيل لكل اختبار فتنة، واستعملوا:
فتن، بمعنى اختبر، وعلى هنا موصلة إلى معنى في، وفي قوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ معناه: يقال لهم ذوقوا حرقكم وعذابكم، قاله قتادة وغيره، والذوق: هنا استعارة، وهذا إشارة إلى حرقهم واستعجالهم: هو قولهم: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم.
ولما ذكر تعالى حالة الكفرة وما يلقون من عذاب الله، عقب ذلك بذكر المتقين وما يلقون من النعيم ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى، والجنات والعيون معروف. والمتقي في الآية مطلق في اتقاء الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: آخِذِينَ نصب على الحال. وقرأ ابن أبي عبلة: «آخذون» بواو. وقال ابن عباس المعنى: آخِذِينَ في دنياهم ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه، فالحال على هذا محكية وهي متقدمة في الزمان على كذبهم في جنات وعيون. وقال جماعة من المفسرين معنى قوله:
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي محصلين لنعم الله التي أعطاهم من جنته ورضوانه، وهذه حال متصلة في المعنى بكونهم في الجنات. وهذا التأويل أرجح عندي لاستقامة الكلام به. وقوله: قَبْلَ ذلِكَ يريد في الدنيا محسنين بالطاعة والعمل الصالح.
قوله عز وجل:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٧ الى ٢٦]
كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦)
معنى قوله عز وجل: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، فالمراد من كل ليلة، والهجوع: النوم.
وقال الأحنف بن قيس: لست من أهل هذه الآية، وهذا إنصاف منه. وقيل لبعض التابعين مدح الله قوما كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، ونحن قليل من الليل ما نقوم، فقال رحم الله عبدا رقد، إذا نعس، وأطاع ربه إذا استيقظ. وفسر أنس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء، وقال الربيع بن خيثم، المعنى: كانوا يصيبون من الليل حظا. وقال مطرف بن عبد الله، المعنى: قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله، وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد، فالمراد عند هؤلاء بقوله: مِنَ اللَّيْلِ أي من الليالي. وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم، أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا.
وأما إعراب الآية: فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي أن المعنى كانُوا قَلِيلًا في عددهم

وتم خبر كان، ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ف ما: نافية. وقَلِيلًا وقف حسن.
وقال بعض النحاة: ما زائدة، وقَلِيلًا مفعول مقدم ب يَهْجَعُونَ. وقال جمهور النحويين ما مصدرية وقَلِيلًا خبر «كان»، والمعنى كانوا قليلا من الليل هجوعهم. والهجوع مرتفع ب «قليل» على أنه فاعل، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلا. وفسر ابن عمر والضحاك يَسْتَغْفِرُونَ ب «يصلون». وقال الحسن معناه: يدعون في طلب المغفرة، و «الأسحار» مظنة الاستغفار. ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم. وفي قصة يعقوب عليه السلام في قوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف: ٩٨] قال أخر الاستغفار لهم إلى السحر. قال ابن زيد في كتاب الطبري: السحر: السدس الآخر من الليل.
وقوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ الصحيح أنها محكمة، وأن هذا الحق هو على وجه الندب، لا على وجه الفرض، و: مَعْلُومٌ يراد به متعارف، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات، وقال منذر بن سعيد: هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة. وقال قوم من المتأولين: كان هذا ثم نسخ بالزكاة، وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئا من أخذ الأموال.
واختلف الناس في الْمَحْرُومِ اختلافا، هو عندي تخليط من المتأخرين، إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا وحصرها مكي ثمانية.
و: الْمَحْرُومِ هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق، قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما الْمَحْرُومِ؟ وقال ابن عباس: الْمَحْرُومِ: المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال، فهو ذو الحرفة المحدود. وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الْمَحْرُومِ. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره: فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه، ف فِي الْأَرْضِ آياتٌ لمن اعتبر وأيقن.
قال القاضي أبو محمد: وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك. وقرأ قتادة: «آية» على الإفراد.
وقوله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها، واتصال هذا الجزء منها بالعقل، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين. قال ابن زيد: إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل، أفيدري أحد ما ذاك العقل؟ وما صفته؟ وكيف هو؟ وقال الرماني:
النفس خاصة: الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل، وهذا تعمق لا أحمده. وقوله:
أَفَلا تُبْصِرُونَ توقيف وتوبيخ.

وقوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ. قال الضحاك وابن جبير: أراد المطر والثلج. وقال واصل الأحدب ومجاهد: أراد القضاء والقدر، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء، لا رب غيره. وقرأ ابن محيصن «وفي السماء رازقكم».
و: تُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الوعيد، والكل في السماء. قال الضحاك المراد: من الجنة والنار. وقال مجاهد المراد: الخير والشر. وقال ابن سيرين المراد: الساعة.
ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، ولا يمكن أن يقع فيه من اللبس ما يقع في الرؤية والسمع، بل النطق أشد تخلصا من هذه واختلف القراء في قوله: مِثْلَ ما، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «مثل» بالرفع، ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس: «مثل» بالنصب، فوجه الأولى الرفع على النعت، وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حيث كان لفظ مثل شائعا عاما لوجوه كثيرة، فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة، لأنك إذا قلت: رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئا، لأن وجوه المماثلة كثيرة، فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة. وما زائدة تعطي تأكيدا، وإضافة «مثل» هي إلى قوله:
أَنَّكُمْ. ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة لَحَقٌّ ولحقه البناء، لأن المضاف إليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله: شرقت صدر القناة. ونحوه، وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك، ويجري «مثل» حينئذ مجرى عَذابِ يَوْمِئِذٍ [المعارج: ١١] على قراءة من فتح الميم، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني] :[الطويل] على حين عاتبت المشيب على الصبا ومنه قول الآخر: [البسيط] لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت ف «غير» فاعلة ولكنه فتحها. والوجه الثاني وهو قول المازني إن «مثل» بني لكونه مع ما شيئا واحدا، وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما، ومنه قول حميد بن ثور: [الطويل]
ألا هيما مما لقيت وهيما | وويها لمن لم يدر ما هن ويحما |