اللغَة: ﴿الحبك﴾ الطرائق جمع حبيكة كطريقة وزناً ومعنى قال الزجاج: الحُبك الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة ما أُديد عمله وقال ابن الأَعرابي: كلُّ شيءٍ أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته ﴿الخراصون﴾ جمع خرَّص وهو الكذَّاب ﴿غَمْرَةٍ﴾ الغمرة ما ستر الشيء وغطَّاه ومنه نهر غمر ﴿يَهْجَعُونَ﴾ ينامون والهجوع النومُ ليلاً ﴿أَوْجَسَ﴾ أحسَّ وشعر ﴿صَرَّةٍ﴾ صيحة وضجة ﴿مُّسَوَّمَةً﴾ معلَّمة.
التفسِير: ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ هذا قسمٌ أقسم تعالى به أي أُقسم بالرياح التي تذرو التراب فتفرّقه، وتحمل الرمال من مكان إلى مكان ﴿فالحاملات وِقْراً﴾ أي وأقسم بالسحب الت يتحمل أثقال الأمطار، وهي محمَّلة بالماء الذي فيه حياة البشر ﴿فالجاريات يُسْراً﴾ أي وأقسم بالسفن التي تجري على وجه الماء جرياً سهلاً بيسر وهي تحمل ذرية بني آدم ﴿فالمقسمات أَمْراً﴾ أي وأقسم بالملائكة الت يتقسم الأرزاق والأَمكار بين العباد، وكل ملك مخصَّص بأمر، فجبريل صاحب الوحي إِلى الأنبياء، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإِسرافيل صاحب الصور، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح قال المفسرون: أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرفها ولما فيها من الدلالة على عجيب
صنعه وقدرته، ثم ذكر جواب القسم فقال ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ إي إن الذي توعدونه من الثواب والعقاب، والحشر والنشر، لأمرٌ صدقٌ محقَّق لا كذب فيه ﴿وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ أي وإنَّ الجزاء لكائنٌ لا محالة، ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال ﴿والسمآء ذَاتِ الحبك﴾ أي وأقسم بالسماء ذات الطرائق المحكمة والبنيان المتقن قال ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ جواب القيم أي إِنكم أيها الكفار لفي قول مضطرب في أمر محمد، فمنكم من يقول إنه ساحر، ومنكم من يقول إنه شاعر، وبعضكم يقول إِنه مجنون إِلى غير ما هنالك من أقوال مختلفة ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ أي يُصرف عن الإِيمان بالقرآن وبمحمد عليه السلام، من صُرف عن الهداية في علم الله تعالى وحُرم السعادة ﴿قُتِلَ الخراصون﴾ أي لُعن الكذابون الذين قالوا إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساحر وكذاب وشاعر قال ابن الأنباري: والقتلُ إِذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك ﴿الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ أي الذين هم غافلون لاهون عن أمر الآخرة ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين﴾ أي يقولون تكذيباً واستهزاءً: متى يوم الحساب والجزاء؟ قال تعالى رداً عليهم ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ﴾ أي هذا الجزاء كائن يوم يدخلون جهنم ويُحرقون بها ﴿ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ﴾ أي تقول لهم خزنة النار: ذوقوا تعذيبكم وجزاءكم ﴿هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي هذا الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءً.. ولما ذكر حال الكفار ذكر المؤمنين الأبرار فقال ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي هم في بساتين فيها عيون جاريةٌ، تجري فيها على نهاية ما يُتنزه به ﴿آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي راضين بما أعطاهم ربهم من الكرامة والنعيم ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ أي كانوا في دار محسنين في الأعمال، ثم ذكر طرفاً من إِحسانهم فقال ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ أي كانوا ينمامون قليلاً من الليل ويصلُّون أكثره قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون من إلا قليلاً ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي وفي أواخر الليل يسغفرون الله من تقصيرهم، فهم مع إحسانهم يعدُّون أنفسهم مذنبين، ولذلك يكثرون الاستغفار بالأسحار قال أبو السعود: أي هم مع قلة نومهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار بالأسحار، كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراف الجرائم، وهو مدح ثانٍ للمحسنين ﴿وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ مدحٌ ثالث أي وفي أموالهم نصيب معلوم قد أوجبوه على أنفسهم بمقتضى الكرم للسائل المحتاج، وللمتعفف الذي لا يسأل لتعففه ﴿وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ أي وفي الأرض دلائل واضحة على قدرة الله سبحانه ووحدانيته للموقنين بالله وعظمته، الذين يعرفونه بصنعه قال ابن كثير: أي وفي الأرض من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما فيها من صنوف النباتات والحيوانات، والجبال القفار، والبحار، والأنهار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، ما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم
صفحة رقم 234
من الخلق البديع، ولهذا قال بعده ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي وفي أنفسكم آياتٌ وعبرٌ من مبدأ خلقكم إِلى منتهاه، أفلا تبصرون قدرة الله في خلقكم لتعرفوا قدرته على البعث؟ قال ابن عباس: يريد اختلاف الصور، والألسنة، والألوان، والطبائع، والسمع والبصر والعقل إِلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم وقال قتادة: من تفكَّر في خلق نفسه عرف أنه إِمنما خُلق ولُيّنت مفاصله للعبادة ﴿وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ أي وفي السماء أسباب رزقكم ومعاشكم وهو المطر الذي به حياة البلاد والعباد، وما توعدون به من الثواب والعقاب مكتوب كذلك في السماء قال الصاوي: والآيةُ قُصد بها الامتنان والوعد والوعيد ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ أي أٌقسم بربِّ السماءِ والأرض إن ما توعدون به من الرزق والبعث والنشور لحقٌّ كائن لا محالة مثل نطقكم، فكما لا تشكون في نقطكم حين تنطقون فكذلك يجب ألا تشكوا في الرزق والبعث قال المفسرون: وهذا على سبيل التشبيه والتمثيل أي رزقكم مقسوم في السماء كنطقكم فلا تشكوا في ذلك، وهذا كقول القائل: هذا حق كما أنك ههنا، وهذا حقٌ كما أنك ترى وتسمع، فالرزق مثل النطق لا يفارق الشخص في حالٍ من الأحوال وفي الحديث
«لو أن أحدكم فرَّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت»
. ثم ذكر تعالى قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم فقال ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ ؟ الاستفهام للتشويق ولتفخيم شأن تلك القصة كما يقول القائل: هل بلغك الخير الفلاني؟ يريد تشويقه إلى استماعه والمعنى هل وصل إِلى سمعك يا محمد خبر ضيوف إِبراهيم المعظَّمين؟ قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإِسرافيل عليهم السلام، سُمُّوا مكرمين لكرامتهم عند الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً﴾ أي حين دخلوا على إِبراهيم فقالوا: نسلِّم عليك سلاماً ﴿قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أي قال علكيم سلامٌ أنتم قومٌ غرباء لا نعرفكم فمن أنتم؟ قال ابن كثير: وإِنما أنكرهم لأنهم قدموا عليه في صورة شبانٍ حسانٍ عليهم مهابة عظيمة ولهذا أنكرهم وقال أبو حيان: والذي يناسب حال إِبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك، إِذْ فيه من عدم الإِنس ما لا يخفى، وإِنما قال ذلك في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه، بحيث لا يسمع ذلك الأضياف ﴿فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ﴾ أي فمضى إلى أهله في سرعة وخفية عن ضيفه، لأن من أدب المضيف أن يبادر بإِحضار الضيافة من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يمنعه الضيف، أو يُثقل عليه في التأخير قال ابن قتيبة: عدل إليهم في خفية ولا يكون الرَّواغُ إِلا أن تُخفي ذهابك ومجيئك ﴿فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ أي فجاءهم بعجل سمينٍ مشوي، والعجلُ ولدُ البقرة وكان عامة ما له البقر، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ﴾ أي أفادناه منهم
ووضعه بين أيديهم فلم يأكلوا فقال لهم في تلطف وبشاشة: ألا تأكلون هذا الطعام. قال ابن كثير: وفي الآية تلطف في العبارة وعرض حسن، وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإنه جاء بطعامٍ من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يتمنَّ عليهم أولاً فقال نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعةٍ وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتيٌّ سمين مشوي، فقربه إليه ولم يضعه وقال اقتربوا بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصغية الجزم بل قال: أملا تأكلون؟ على سبيل العرض والتلطف كما يقول القائل: إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ أي فأضمر في نفسه الخوف منهم لما رأى إِعراضهم عن الطعام ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ﴾ أي قالوا له لا تخف إِنا رسل ربك ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ﴾ أي وبشروه بولدٍ يولد له من زوجته سارة يكون عالماً عند بلوغه قال أبو حيان: وفيه تبشيرٌ بحياته حتى يكون من العلماء، والجمهور علىأن المبشر به هو إِسحاق لقوله تعالى في سورة هود ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١] ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾ أي فأقبلت سارة نحوهم حيث سمعت البشارة في صيحةٍ وضحة قال المفسرون: لما سمعت بالبشارة وكانت في زاوية من زوايا البيت جاءت نحوهم في صحية عظيمة تريد أن تستفر الخبر ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ أي فلطمت وجهها على عادة النساء عند التعجب قال ابن عنباس: لطمت وجهها تعجباً كا تتعجب النساء من الأمر الغريب ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ والعقيم هي التي لم تلد قطّ لانقطاع حبلها قبل الإِمام الجلال: كان عمرهها تسعاً وتسعين سنة، وعمر إِبراهيم مائة وعشرين ﴿قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ أي الأمر كما أخبرناك هكذا حكم وقضى ربك من الأزل فلا تعجبي ولا تشكّي فيه ﴿إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم﴾ أي الحكيم في صنعه، العليم بمصالح خلقه ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون﴾ أي ما شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم أيها الملائكة الأبرار؟ قال البيضاوي: لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إِلا لأمرٍ عظيم سأل عنه ﴿قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ أي قالوا إن الله أرسلنا لإِهلاك قوم لوط الذين ارتكبوا أفحش الجرائم «اللواط» وكانوا ذوي جرائم متعددة، وهي كبار المعاصي من كفر وعصيان ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ أي لنهلكهم بحجارةٍ من طين متحجر مطبوخ بالنار وهو السجيل قال أبو حيان: والتسجيلُ طينٌ يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصبح في صلابة الحجارة ﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ﴾ أي معلَّمة من عند الله بعلامة، على كل واحدةٍ منها اسم صاحبها الذي يهلك بها ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ أي المجاوزين الحدَّ في الفجور قال الصاوي: كان في قرى لوط ستمائة ألف فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم ثم قلبها، ثم أرسل الحجارة على من كان خارجاً عنها ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين﴾ أي فأخرجنا من كان في قرى أهل لوط من المؤمنين
صفحة رقم 236
لئلا يهلكوا ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ أي فما كان فيها بعد البحث والتفتيش غير أهل بيت واحد من المسلمين قال: مجاهد هم لوطٌ وابنتاه، والغرضُ من الآية بيان قلة المؤمنين الناجين من العذاب، وكثرة الكافرين المستحقين للهلاك قال الإِماما الجلال: وصفوا بالإِيمان والإِسلام أي هم صدقون بقلوبهم، عاملون بجوارحهم الطاعات ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً﴾ أي أبقينا في تلك القرى المهلكة بعد أهلاك الظالمين علامةً على هلاكهم بجعل عاليها سافلها ﴿لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم﴾ أي للذين يخافون عذاب الله فإنهم المعبترون به قال ابن كثير: ومعنى الآية ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً﴾ أي جعلناها عبرةً بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال، وجعلنا محلتهم بحيرةً منتنة خبيثة ففي ذلك عبرةٌ للمؤمنين الذين يخافون العذاب الأليم.
تنبيهْ: قال الإِمام الرازي: في قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم صلى لله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، واختار تعالى إِبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سنته في بعض الأشياء، وفيها إنذار لقومه بما أجرى من الضيف ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين.