
الترهيب من عقاب الله والترغيب بفعل الطيب
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
البلاغة:
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أطلق اسم المصدر وأراد به التبليغ للمبالغة، فهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ بينهما طباق. قال الزمخشري: وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديئهم.
المفردات اللغوية:
شَدِيدُ الْعِقابِ لأعدائه غَفُورٌ لأوليائه رَحِيمٌ بهم تُبْدُونَ تظهرون من العمل وَما تَكْتُمُونَ تخفون منه، فيجازيكم به الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الحلال والحرام والحسن والقبيح والجيد والرديء وَلَوْ أَعْجَبَكَ سرّك فَاتَّقُوا اللَّهَ في ترك الخبيث وفعل الطيب الْأَلْبابِ العقول تُفْلِحُونَ تفوزون.
سبب النزول: نزول الآية (١٠٠) :
قُلْ لا يَسْتَوِي:
أخرج الواحدي والأصبهاني في الترغيب عن جابر: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر تحريم الخمر، فقام أعرابي فقال: إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاعتقبت منها مالا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله

تعالى؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يقبل إلا الطيب، فأنزل الله تعالى تصديقا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وفي رواية أخرى: «إن الله عز وجل حرّم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب، إلا إن الخمر لعن شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها، فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله، إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي، فاقتنيت من بيع الخمر مالا، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟
فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيّب» «١».
المناسبة:
حذرنا الله تعالى في الآية السابقة من انتهاك حرمة أربعة أشياء ببيان سعة علم الله المحيط بكل شيء، ثم نبّه في هذه الآيات على عقوبة المخالفة، وأن الرسول لا يملك الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ، وأن الحكمة والعدل يقضيان بالتمييز بين الطيب والخبيث أو البر والفاجر.
التفسير والبيان:
اعلموا أيها الناس أن الله الذي لا تخفى عليه خافية، شديد العقاب لمن خالف أوامره فأشرك بالله وفسق وعصى ربه، وهو غفار لذنوب من أطاعه رحيم به، فلا يؤاخذه بما سبق إيمانه ولا بما عمل من سوء بجهالة ثم تاب وأصلح عمله.
وهذا يقتضي أن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف، وأنه تعالى لم يخلقنا عبثا، بل لا بد من جزاء العاصي، وإثابة الطائع.

وفي تقديم العقاب على الرحمة دلالة على أن جانب الرحمة أغلب لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث، لذا قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة ٥/ ١٥] وقد ذكر الله في هذه الآية أمام العقاب وصفين من أوصاف الرحمة، وهو كونه غفورا رحيما، قال الرازي: وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة «١».
وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة، ثم يؤول أمر الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية إلى الله خالق الخلق الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يظهره الإنسان وما يكتمه في جوانح نفسه، فإذا بلّغ الرسول بقي الأمر من جانبكم.
وهذا وعيد شديد مؤكد لما سبق في الآية [٩٧] : ذلِكَ لِتَعْلَمُوا وتهديد لمن يخالف أوامر الله، وإبطال لمخاوف المشركين من معبوداتهم الباطلة.
ولما زجر الله تعالى عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم أتبعه بالتكليف بقوله: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
فليس من الحكمة والعدل التسوية بين الجيد والرديء، وبين البر والفاجر، كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨] وقال عز وجل: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية ٤٥/ ٢١].

قل لهم أيها الرسول: لا يستوي أبدا الرديء والجيد، والضار والنافع، والفاسد والصالح، والحرام والحلال، والظالم والعادل، ولو أعجبك أيها المشاهد كثرة الخبيث من الناس أو المفسدين أو الأموال الحرام كالربا والرشوة والخيانة، وقلة الطيب من الصالحين والأبرار وأهل الاستقامة! فاتقوا الله يا أهل العقول، واحذروا تسلط الشيطان عليكم، فتغتروا بكثرة أهل الباطل والفساد أو كثرة المال الحرام، فإن العاقل هو الذي يتذكر ويعي ويحذر، وتقوى الله هي سبيل الفلاح والفوز والنجاة، وإحراز خيري الدنيا والآخرة.
والأمر بالتقوى تأكيد لما سبق من الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآية أن مهمة التكليف تنتهي بمجرد تبليغ الأحكام الشرعية، ويبقى أمر التزامها والوقوف عند حدودها على الإنسان المكلف بحمل الأمانة.
وفي التزام الطاعة واجتناب المعصية تكمن الخطورة، وتظهر البطولة، ويعرف مدى الجهاد الذي جاهد به الإنسان نفسه ليحملها على الاستقامة، ويحجبها عن الانحراف، وتقديرا لهذه المخاطر والمواقف الصعبة لاختيار الحل الأفضل، رغب الله تعالى في الطاعة ونفر من المعصية في هذه الآيات في أربعة مواضع: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
قُلْ: لا يَسْتَوِي فَاتَّقُوا اللَّهَ.
فأين يفر الإنسان من رقابة الله له وعلمه الشامل المحيط بكل شيء، أظهره أو أخفاه في قلبه؟

وقد نقلت أقوال في تفسير الخبيث والطيب، فقيل: الحلال والحرام، وقيل: المؤمن والكافر، وقيل: الرديء والجيد، والصحيح كما قال القرطبي: أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصّور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة. قال الله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف ٧/ ٥٨].
وقد استنبط علماء المالكية حكما طريفا من الآية لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وهو أن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن أي ببيع المبيع إلى آخر، ويرد الثمن على المشتري إن كان قبضه البائع، وإن تلف في يده ضمنه لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد، ويؤيد ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
وتطبيقات هذا المبدأ كثيرة في الفقه، منها: إذا بنى الغاصب في البقعة المغصوبة أو غرس، فإنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس، لأنه خبيث، ثم ردّها على صاحبها خلافا لقول أبي حنيفة: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود عن عروة بن الزبير: «ليس لعرق ظالم حق»
والعرق الظالم: أن يغرس الرجل في أرض غيره، ليستحقها بذلك.
والخطاب في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته، فإن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعجبه الخبيث.